﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ﴾ (العلق : ١٩). وقال :"لن يتقرب المتقربون إلى بمثل أداء ما افترضت عليهم" وقال :"لا يزال العبد يتقرب بالعبادة إلي" فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتقاده بملك فلا مرتبة له أصلاً، وأما التشريك فلأن من يكون سيده لا نظير له يكون أعلى رتبة ممن يكون سيده له شركاء خسيسة، فإذن من يقول إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول سيدي صنم منحوت عاجز مثله، فثبت أن عبادة الله وتقواه خير وهو خير لكم أي خير للناس إن كانوا يعلمون ما ذكرناه من الدلائل والاعتبارات.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٩
٤٠
ذكر بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور، إما لكونه مستحقاً للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه سواء أطعمه من الجوع أو منعه من الهجوع، وإما لكونه نافعاً في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة، وإما لكونه نافعاً في المستقبل كمن يخدم غيره متوقعاً منه أمراً في المستقبل، وإما لكونه خائفاً منه. فقال إبراهيم :﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَـانًا﴾ إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها لكونها أوثاناً لا شرف لها.
قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَه ا إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل، وهذا لأن النفع، إما في الوجود، وإما في البقاء لكن ليس منهم نفع في الوجود، لأن وجودهم منكم حيث تخلقونها وتنحتونها، ولا نفع في البقاء لأن ذلك بالرزق، وليس منهم ذلك، ثم بين أن ذلك كله حاصل من الله فقال :﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ فقوله :﴿اللَّهِ﴾ إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته وقوله :﴿الرِّزْقَ﴾ إشارة إلى حصول النفع منه عاجلاً وآجلاً وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال :﴿لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾ نكرة، وقال :﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ معرفاً فما الفائدة ؟
فنقول قال الزمخشري قال :﴿لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾ نكرة في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلاً، وقال معرفة عند الإثبات عند الله أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه، وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من الله معروف بقوله :﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ (هود : ٦) والرزق / من الأوثان غير معلوم فقال :﴿لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾ لعدم حصول العلم به وقال :﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ الموعود به، ثم قال :﴿فَاعْبُدُوه ﴾ أي اعبدوه لكونه مستحقاً للعبادة لذاته واشكروا له أي لكونه سابق النعم بالخلق وواصلها بالرزق ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي اعبدوه لكونه مرجعاً منه يتوقع الخير لا غير.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٤٠
٤٢
لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد فقال :﴿وَإِن تُكَذِّبُوا ﴾ وفي المخاطب في هذه الآية وجهان : أحدهما : أنه قوم إبراهيم والآية حكاية عن قوم إبراهيم كأن إبراهيم قال لقومه :﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ﴾ وأنا أتيت بما علي من التبليغ فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان والثاني : أنه خطاب مع قوم محمد عليه السلام ووجهه أن الحكايات أكثرها إنما تكون لمقاصد لكنها تنسى لطيب الحكاية ولهذا كثيراً ما يقول الحاكي لأي شيء حكيت هذه الحكاية فالنبي عليه السلام كان مقصوده تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا من التكذيب ويرتدعوا خوفاً من التعذيب، فقال في أثناء حكايتهم يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام وأهلكوا فإن كذبتم أخاف عليكم ما جاء على غيركم، وعلى الوجه الأول في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن قوله :﴿فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ﴾ كيف يفهم، مع أن إبراهيم لم يسبقه إلا قوم نوح وهم أمة واحدة ؟
والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن قبل نوح كان أقوام كقوم إدريس وقوم شيث وآدم والثاني : أن نوحاً عاش ألفاً وأكثر وكان القرن يموت ويجيء أولاده والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الاتباع فكفى بقوم نوح أمماً.
المسألة الثانية : ما ﴿الْبَلَـاغُ﴾ وما ﴿الْمُبِينُ﴾ ؟
فنقول البلاغ هو ذكر المسائل، والإبانة هي إقامة البرهان عليه.
المسألة الثالثة : الآية تدل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فإنه لم يأت بالبلاغ المبين، فلا يكون آتياً بما عليه.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٤٢
٤٣


الصفحة التالية
Icon