المسألة الثالثة : أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء حيث قال :﴿كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ﴾ وأضمره عند الإعادة وفي هذه الآية أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة حيث قال :﴿ثُمَّ اللَّهُ﴾ لأن في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البدء فقال :﴿يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ﴾ ثم قال :﴿ثُمَّ يُعِيدُه ا ﴾ كما يقول القائل ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً ولا يحتاج إلى إظهار اسم زيد اكتفاء بالأول، وفي الآية الثانية كان ذكر البدء مسنداً إلى الله فاكتفى به ولم يبرزه كقوله القائل أما علمت كيف خرج زيد، اسمع مني كيف خرج، ولا يظهر اسم زيد، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً حيث قال :﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ﴾ مع أنه كان يكفي أن يقول : ثم ينشيء النشأة الآخرة، فلحكمة بالغة وهي ما ذكرنا أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسماً من يفهم المسمى به بصفات كماله ونعوت جلاله يقطع بجواز الإعادة فقال الله مظهراً مبرزاً ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته ويعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته، فإن قيل فلم لم يقل ثم الله يعيده لعين ما ذكرت من الحكمة والفائدة ؟
نقول لوجهين أحدهما : أن الله كان مظهراً مبزراً بقرب منه وهو في قوله :﴿كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق وأما ههنا فلم يكن / مذكوراً عند البدء فأظهره وثانيهما : أن الدليل ههنا تم على جواز الإعادة لأن الدلائل منحصرة في الآفاق وفي الأنفس، كما قال تعالى :﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ﴾ (فصلت : ٥٣) وفي الآية الأولى أشار إلى الدليل النفسي الحاصل لهذا الإنسان من نفسه، وفي الآية الثانية أشار إلى الدليل الحاصل من الآفاق بقوله :﴿قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ﴾ وعندهما تم الدليلان، فأكده بإظهار اسمه، وما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني، فلم يقل ثم الله يعيده.
المسألة الرابعة : في الآية الأولى ذكر بلفظ المستقبل فقال :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ﴾ وههنا قال بلفظ الماضي فقال :﴿فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ﴾ ولم يقل كيف يبدأ، فنقول الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم الحدسي وهو في كل حال يوجب العلم ببدء الخلق، فقال إن كان ليس لكم علم بأن الله في كل حال يبدأ خلقاً فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن الله بدأ خلقاً، ويحصل المطلوب من هذا القدر فإنه ينشيء كما بدأ ذلك.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٤٤
المسألة الخامسة : قال في هذه الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ وقال في الآية الأولى ﴿إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ وفيه فائدتان إحداهما : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي، وهو وإن كان موجبه العلم الحدسي التام ولكن عند انضمام دليل الآفاق إليه يحصل العلم العام، لأنه بالنظر في نفسه علم نفسه وحاجته إلى الله ووجوده منه، وبالنظر إلى الآفاق علم حاجة غيره إليه ووجوده منه، فتم علمه بأن كل شيء من الله فقال عند تمام ذكر الدليلين ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ وقال عند الدليل الواحد ﴿إِنَّ ذَالِكَ﴾ وهو إعادته ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ الثانية : هي أنا بينا أن العلم الأول أتم وإن كان الثاني أعم وكون الأمر يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً له بدليل أن القائل يقول في حق من يحمل مائة من أنه قادر عليه ولا يقول إنه سهل عليه، فإذا سئل عن حمله عشرة أمنان يقول إن ذلك عليه يسير، فنقول قال الله تعالى إن لم يحصل لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور، ونفس كونه مقدوراً كاف في إمكان الإعادة.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٤٤
٤٦
لما ذكر النشأة الآخرة ذكر ما يكون فيه وهو تعذيب أهل التكذيب عدلاً وحكمة، وإثابة أهل الإنابة فضلاً ورحمة، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه السلام حاكياً عنه "سبقت رحمتي غضبي" فنقول ذلك لوجهين أحدهما : أن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقيه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة، وكما ذكر، بعد إثبات الأصل الأول وهو التوحيد ـ التهديد بقوله :﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ﴾ (العنبكوت : ١٨) وأهلكوا بالتكذيب كذلك ذكر بعد إثبات الأصل الآخر التهديد بذكر التعذيب، وذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده وهذا يحقق قوله :(سبقت رحمتي غضبي) وذلك لأن الله حيث كان المقصود ذكر العذاب لم يمحضه في الذكر بل ذكر الرحمة معه.


الصفحة التالية
Icon