لما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان وهدد من خالفه على سبيل التفصيل فقال :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ وَلِقَآاـاِه ﴾ إشارة إلى الكفار بالله، فإن لله في كل شيء آية دالة على وحدانيته، فإذا أشرك كفر بآيات الله وإشارة إلى المنكر للحشر فإن من أنكره كفر بلقاء الله فقال :﴿ أولئك يَـاـاِسُوا مِن رَّحْمَتِى﴾ لما أركوا أخرجوا أنفسهم عن محل الرحمة لأن من يكون له جهة واحدة تدفع حاجته لا غير يرحم، وإذا كان له جهات متعددة لا يبقى محلاً للرحمة، فإذا جعلوا لهم آلهة لم يعترفوا بالحاجة إلى طريق متعين فييأسوا من رحمة الله، ولما أنكروا الحشر وقالوا لا عذاب فناسب تعذيبهم تحقيقاً للأمر عليهم، وهذا كما أن الملك إذا قال أعذب من يخالفني فأنكره بعيد عنه وقال هو لا يصل إلي، فإذا أحضر بين يديه يحسن منه أن يعذبه ويقول هل قدرت وهل عذبت أم لا، فإذن تبين أن عدم الرحمة يناسب الإشراك، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر. ثم إن في الآية فوائد إحداها : قوله :﴿ أولئك يَـاـاِسُوا ﴾ حتى يكون منبئاً عن حصر الناس فيهم وقال أيضاً ﴿أُوالَـا ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لذلك، ولو قال : أولئك الذين كفروا بآيات الله ولقائه يئسوا من رحمتي ولهم عذاب أليم، ما كان يحصل هذه الفائدة فإن قال قائل لو اكتفي بقوله ﴿ أولئك ﴾ مرة واحدة كان يكفي في إفادة ما ذكر، ثم قلنا لا وذلك لأنه لو قال أولئك يئسوا ولهم عذاب، كان يذهب وهم أحد إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم، فلا يوجد المجموع إلا فيهم ولكن واحداً منهما وحده يمكن أن يوجد في غيرهم، فإذا قال أولئك يئسوا وأولئك لهم عذاب أفاد أن كل واحد لا يوجد إلا فيهم الثانية : عند ذكر الرحمة أضافها إلى نفسه فقال رحمتي وعند العذاب لم يضفه لسبق رحمته وإعلاماً لعباده بعمومها لهم ولزومها له الثالثة : أضاف اليأس إليهم / بقوله :﴿ أولئك يَـاـاِسُوا ﴾ فحرمها عليهم ولو طمعوا لأباحها لهم، فلو قال قائل ما ذكرت من مقابلة الأمرين وهما اليأس والعذاب بأمرين وهما الكفر بالآيات والكفر باللقاء يقتضي أن لا يكون العذاب الأليم لمن كفر بالله واعترف بالحشر، أو لا يكون اليأس لمن كفر بالحشر وآمن بالله فنقول : معنى الآية أنهم يئسوا ولهم عذاب أليم زائد بسبب كفرهم بالحشر، ولا شك أن التعذيب بسبب الكفر بالحشر لا يكون إلا للكافر بالحشر، وأما الآخر فالكافر بالحشر لا يكون مؤمناً بالله لأن الإيمان به لا يصح إلا إذا صدقه فيما قاله والحشر من جملة ذلك.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٤٧
٤٧
لما أتى إبراهيم عليه السلام ببيان الأصول الثلاثة وأقام البرهان عليه، بقي الأمر من جانبهم إما الإجابة أو الإتيان بما يصلح أن يكون جوابه فلم يأتوا إلا بقولهم ﴿اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : كيف سمى قولهم ﴿اقْتُلُوهُ﴾ جواباً مع أنه ليس بجواب ؟
فنقول (الجواب عنه) من وجهين أحدهما : أنه خرج منهم مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف، مع أن السيف ليس بجواب، وإنما معناه لا أقابله بالجواب، وإنما أقابله بالسيف فكذلك قالوا لا تجيبوا عن براهينه واقتلوه أو حرقوه هو أن الله أراد بيان ضلالهم وهو أنهم ذكروا في معرض الجواب هذا مع أنه ليس بجواب، فتبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلا وذلك لأن من لا يجيب غيره ويسكت، لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات، أما إذا أجاب بجواب فاسد، علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه.
المسألة الثانية : القائلون الذين قالوا اقتلوه هم قومه والمأمورون بقولهم اقتلوه أيضاً هم، فيكون الآمر نفس المأمور ؟
فنقول الجواب عنه : من وجهين أحدهما : أن كل واحد منهم قال لمن عداه اقتلوه، فحصل الأمر من كل واحد وصار المأمور كل واحد ولا اتحاد، لأن كل واحد أمر غيره وثانيهما : هو أن الجواب لا يكون إلا من الأكابر والرؤساء، فإذا قال أعيان بلد كلاما يقال اتفق أهل البلدة على هذا ولا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأرذال، فكان جواب قومه وهم الرؤساء أن قالوا لأتباعهم وأعوانهم اقتلوه، لأن الجواب لا يباشره إلا الأكابر والقتل لا يباشره إلا الأتباع.


الصفحة التالية
Icon