المسألة الأولى : جعل الله الآية في نوح وإبراهيم بالنجاة حيث قال :﴿فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَـاهَآ ءَايَةً﴾ (العنكبوت : ١٥) وقال :﴿فَأَنجَـاـاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ﴾ (العنبكوت : ٢٤) وجعل ههنا الهلاك آية فهل عندك فيه شيء ؟
نقول نعم، أما إبراهيم فلأن الآية كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي، وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً، والغرق لم يبق لمن بعده أثره فجعل الباقي آية، وأما ههنا فنجاة لوط لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي وهو ههنا البلاد وهناك السفينة وههنا لطيفة : وهي أن الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥٦
المسألة الثانية : قال في السفينة :﴿وَجَعَلْنَـاهَآ ءَايَةً﴾ ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة نقول لأن الإنجاء بالسفينة أمر يتسع له كل عقل وقد يقع في وهم جاهل أن الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر، وأما الآية ههنا الخسف وجعل ديار معمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد/ وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان، فهي بينة لا يمكن لجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة النجاة بها أمر يكون كذلك إلى أن يقال له فمن أين علم أنه يحتاج إليها ولو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كان يحصل لهم النجاة ؟
ولو سلط الله عليهم الريح العاصفة كيف يكون أحوالهم ؟
المسألة الثالثة : قال هناك للعالمين وقال ههنا :﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ قلنا لأن السفينة موجودة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال لسفينة نوح يتذكرون بها حاله، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة ولا يثق أحد بمجرد السفينة، بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرعاً إلى الله تعالى طلباً للنجاة، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من يمر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله المريد، بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان بعد زمان.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥٦
٥٧
لما أتم الحكاية الثانية على وجه الاختصار لفائدة الاعتبار شرع في الثالثة وقال :﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ﴾ واختلف المفسرون في مدين، فقال بعضهم إنه اسم رجل في الأصل وحصل له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما، وقال بعضهم اسم ماء نسب القوم إليه، واشتهر في القوم، والأول كأنه أصح وذلك لأن الله أضاف الماء إلى مدين حيث قال :﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ﴾ (القصص : ٢٣) ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقة والأصل في الإضافة التغاير حقيقة، وقوله :﴿أَخَاهُمْ﴾ قيل لأن شعيباً كان منهم نسباً، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الله تعالى في نوح :﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه ﴾ (العنبكوت : ١٤) قدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ولوط، وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً، فنقول الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن المرسل لا يبعث رسولاً إلى غير معين، وإنما يحصل قوم أو شخص يحتاجون إلى إنباء من المرسل فيرسل إليهم من يختاره غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالنبي فقيل قوم نوح وقوم لوط، وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله وقال الله :﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ وقال :﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾ (الأعراف : ٦٥).
المسألة الثانية : لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن شعيب ذلك ؟
قلنا قد ذكرنا أن لوطاً كان له قوم وهو كان من قوم إبراهيم وفي زمانه، وإبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يذكره عن لوط وإنما ذكر منه ما اختص به من المنع عن الفاحشة وغيرها، وإن كان هو أيضاً يأمر بالتوحيد، إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد، وأما شعيب فكان بعد انقراض القوم فكان هو أصلاً أيضاً في التوحيد فدأبه وقال :﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥٧


الصفحة التالية
Icon