يعني إن لم يؤمنوا هم لا يورث كفرهم شكاً في صحة دينكم، ولا يؤثر شكهم في قوة يقينكم، فإن خلق الله السموات والأرض بالحق للمؤمنين بيان ظاهر، وبرهان باهر، وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر، وفي الآية مسألة يتبين بها تفسير الآية، وهي أن الله تعالى كيف خص الآية في خلق السموات والأرض بالمؤمنين مع أن في خلقهما آية لكل عاقل كما قال الله تعالى :﴿وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه ﴾ (لقمان : ٢٥) وقال الله تعالى :﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ (البقرة : ١٦٤) فنقول خلق السموات والأرض آية لكل عاقل وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب، وبيانه من حيث النقل والعقل، أما النقل فقوله تعالى :﴿مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الدخان : ٣٩) أخرج أكثر الناس عن العلم يكون خلقهما بالحق مع أنه أثبت علم الكل بأنه خلقهما حيث قال :﴿وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّه ﴾ وأما العقل فهو أن العاقل أول ما ينظر إلى خلق السموات والأرض ويعلم أن لهما خالقاً وهو الله ثم من يهديه الله لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك، بل يقول إنه خلقهما متقناً محكماً وهو المراد بقوله ﴿بِالْحَقِّ ﴾، لأن ما لا يكون على وجه الإحكام يفسد ويبطل فيكون باطلاً، وإذا علم أنه خلقهما متقناً يقول إنه قادر كامل حيث خلق وعالم علمه شامل حيث أتقن / فيقول لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السموات ولا يعجز عن جمعها كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات، فيجوز بعث من في القبور وبعثة الرسول، ويعلم وحدانية الله لأنه لو كان أكثر من واحد لفسدتا ولبطلتا وهما بالحق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه، من خلق ما خلقه على أحسن نظامه، ثم إن الله تعالى لما سلى المؤمنين بهذه الآية سلى رسوله
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٦٤
٦٤
يعني إن كنت تأسف على كفرهم فاتل ما أوحي إليك لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ولهذا قال :﴿اتْلُ﴾ وما قال عليهم، لأن التلاوة ما كانت بعد اليأس منهم إلا لتسلية قلب محمد عليه الصلاة والسلام وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن الرسول إذا كان معه كتاب وقرأ كتابه مرة ولم يسمع لم يبق له فائدة في قراءته لنفسه فنقول الكتاب المنزل مع النبي المرسل ليس كذلك، فإن الكتب المسيرة مع الرسل على قسمين قسم يكون فيه سلام وكلام، مع واحد يحصل بقراءته مرة تمام المرام، وقسم يكون فيه قانون كلي تحتاج إليه الرعية في جميع الأوقات كما إذا كتب الملك كتاباً فيه إنا رفعنا عنكم البدعة الفلانية ووضعنا فيكم السنة الفلانية وبعثنا إليكم هذا الكتاب فيه جميع ذلك فليكن ذلك كمنوال ينسج عليه وال بعد وال، فمثل هذا الكتاب لا يقرأ ويترك بل يعلق من مكان عال، وكثيراً ما تكتب نسخته على لوح ويثبت فوق المحاريب، ويكون نصب الأعين، فكذلك كتاب الله مع رسوله محمد قانون كلي فيه شفاء للعالمين فوجب تلاوته مرة بعد مرة ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم ويثبت في الصدور على مرور الدهور الوجه الثاني : هو أن الكتب على ثلاثة أقسام كتاب لا تكره قراءته إلا للغير كالقصص فإن من قرأ حكاية مرة لا يقرؤها مرة أخرى إلا لغيره، ثم إذا سمعه ذلك الغير لا يقرؤها إلا لآخر لم يسمعه ولو قرأه عليه لسئموه، وكتاب لا يكرر عليه إلا للنفس كالنحو والفقه وغيرهما وكتاب يتلى مرة بعد مرة للنفس وللغير كالمواعظ الحسنة فإنها تكرر للغير وكلما سمعها يلتذ بها ويرق لها قلبه ويستعيدها وكلما تدخل السمع يخرج الوسواس مع الدمع وتكرر أيضاً لنفس المتكلم فإن كثيراً ما يلتذ المتكلم بكلمة طيبة وكلما يعيدها يكون أطيب وألذ وأثبت في القلب وأنفذ / حتى يكاد يبكي من رقته دماً ولو أورثه البكاء عمى، إذا علم هذا فالقرآن من القبيل الثالث مع أن فيه القصص والفقه والنحو فكان في تلاوته في كل زمان فائدة.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٦٤


الصفحة التالية
Icon