ثم قال تعالى :﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِه مِن كِتَـابٍ وَلا تَخُطُّه بِيَمِينِكَ ﴾ هذه درجة أخرى بعد ما تقدم على الترتيب، وذلك لأن المجادل إذا ذكر مسألة مختلفاً فيها كقول القائل : الزكاة تجب في مال الصغير، فإذا قيل له لم ؟
فيقول كما تجب النفقة في ماله، ولا يذكر أولا الجامع بينهما، فإن قنع الطالب بمجرد التشبيه وأدرك من نفسه الجامع فذاك، وإن لم يدرك أو لم يقنع يبدي الجامع، فيقول كلاهما مال فضل عن الحاجة فيجب فكذلك ههنا ذكر أولا التمثيل بقوله :﴿وَكَذَالِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ﴾ (العنكبوت : ٤٧) ثم ذكر الجامع وهو المعجزة، فقال ما علم كون تلك الكتب منزلة إلا بالمعجزة، وهذا القرآن ممن لم يكتب ولم يقرأ عين المعجزة، فيعرف كونه منزلاً، وقوله تعالى :﴿إِذًا ارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ فيه معنى لطيف، وهو أن النبي إذا كان قارئاً كاتباً ما كان يوجب كون هذا الكلام كلامه، فإن جميع كتبة الأرض وقرائها لا يقدرون عليه، لكن على ذلك التقدير يكون للمبطل وجه ارتياب، وعلى ما هو عليه لا وجه لارتيابه فهو أدخل في الإبطال وهذا كقوله تعالى :﴿وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه ﴾ (البقرة : ٢٣) أي من مثل محمد عليه السلام وكقوله :﴿ الر * ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه ﴾ (البقرة : ١/ ٢).
ثم قال تعالى :﴿بَلْ هُوَ ءَايَـاتُا بَيِّنَـاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ قوله في صدور الذين أوتوا العلم إشارة إلى أنه ليس من مخترعات الآدميين، لأن من يكون له كلام مخترع يقول هذا من قلبي وخاطري، وإذا حفظه من غيره يقول إنه في قلبي وصدري، فإذا قال :﴿فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ لا يكون من صدر أحد منهم، والجاهل يستحيل منه ذلك ظهور له من الصدور ويلتحقون عنده هذه الأمة بالمشركين، فظهوره من الله.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٦٧
ثم قال تعالى :﴿وَمَا يَجْحَدُ بِـاَايَـاتِنَآ إِلا الظَّـالِمُونَ﴾ قال ههنا الظالمون، ومن قبل قال الكافرون، مع أن الكافر ظالم ولا تنافي بين الكلامين وفيه فائدة، وهي أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين، فلفظ الكافر هناك كان بليغاً يمنعهم من ذلك لاستنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أول الأمر بالمشركين حكما، وتلتحقون عند هذه الآية بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين، أي مشركين، كما بينا أن الشرك ظلم عظيم، فهذا اللفط ههنا أبلغ وذلك اللفظ هناك أبلغ.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٦٧
٦٨
لما فرغ من ذكر دليل من جانب النبي عليه السلام ذكر شبهتهم وهي بذكر الفرق بين المقيس عليه والمقيس، فقالوا إنك تقول إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى، وليس كذلك لأن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئاً منها، ثم إن الله تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها قوله :﴿إِنَّمَا الايَـاتُ عِندَ اللَّهِ﴾ ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلّم ادعى الرسالة وليس من شرط الرسالة الآية المعجزة، لأن الرسول يرسل أولا ويدعو إلى الله، ثم إن توقف الخلق في قبوله أو طلبوا منه دليلاً، فالله إن رحمهم بين رسالته وإن لم يرحمهم لا يبين، فقال أنا الساعة رسول وأما الآية فالله إن أراد ينزلها وإن لم يرد لا ينزلها وهذا لأن ما هو من ضرورات الشيء إذا خلق الله الشيء لا بد من أن يخلقها كالمكان من ضرورات الإنسان فلا يخلق الله إنساناً إلا ويكون قد خلق مكاناً أو يخلقه معه، لكن الرسالة والمعجزة ليستا كذلك فالله إذا خلق رسولا وجعله رسولا ليس من ضروراته أن تعلم له معجزة، ولهذا علم وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب ولم تعلم لهم معجزة فإن قيل علم رسالتهم، نقول من ثبتت رسالته بلا معجزة فنبينا كذلك لا حاجة له إلى معجزة لأن رسالته علمت بقول موسى وعيسى فتبين بطلان قولهم لم لم ينزل عليه آية ؟
وهذا لأنهم طلبوا سبق الآية وليست شرطاً حتى تسبقها، بلى إن كان لهم سؤال فطريقه أن يقولوا يا أيها المدعي نحن لا نكذبك ولا نصدقك لكنا نريد أن يبين الله لنا آية تخلصنا من تصديق المتنبي وتكذيب النبي ونعلم بها كونك نبياً ونؤمن بك، فبعد ذلك ما كان يبعد من رحمة الله أن ينزل آية.
ثم قوله :﴿وَإِنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ معناه أن الآية عند الله ينزلها أو لا ينزلها لا تتعلق بي ما أنا إلا نذير وليس لي عليه حكم بشيء ثم إنه بعد بيان فساد شبهتهم من وجه بين فسادها من وجه آخر، وقال هب أن إنزال الآية شرط لكنه وجد وهو في نفس الكتاب.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٦٨
٦٨


الصفحة التالية
Icon