المسألة الثانية : إذا كان عبادي لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله :﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ / مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف، كما يقال يا أيها المكلفون المؤمنون، ويا أيها الرجال العقلاء تمييزاً عن الكافرين والجهال، فنقول الوصف يذكر لا للتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال الأنبياء المكرمون والملائكة المطهرون/ مع أن كل نبي مكرم وكل ملك مطهر، وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة، ومثل هذا قولنا الله العظيم وزيد الطويل، فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون.
المسألة الثالثة : إذ قال ﴿فِى عِبَـادِى﴾ فهم يكونون عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة بقوله فاعبدون ؟
فنقول فيه فائدتان إحداهما : المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل الثانية : الإخلاص أي يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري.
المسألة الرابعة : الفاء في قوله :﴿فَإِيَّـايَ﴾ تدل على أنه جواب لشرط فما ذلك ؟
فنقول قوله :﴿إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ﴾ إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني، وأما الفاء في قوله تعالى :﴿فَاعْبُدُونِ﴾ فهو لترتيب المقتضى على المقتضى كما يقال هذا عالم فأكرموه فكذلك ههنا لما أعلم نفسه بقوله :﴿فَإِيَّـايَ﴾ وهو لنفسه يستحق العبادة قال فاعبدون.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٧١
المسألة الخامسة : قال العبد مثل هذا في قوله :﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ وقال عقيبه :﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ والله تعالى وافقه في قوله :﴿فَإِيَّـاىَ فَاعْبُدُونِ﴾ ولم يذكر الإعانة نقول بل هي مذكورة في قوله ﴿فِى عِبَـادِى﴾ لأن المذكور بعبادي لما كان الشيطان مسدود السبيل عليه مسدود القبيل عنه كان في غاية الإعانة.
المسألة السادسة : قدم الله الإعانة وأخر العبد الاستعانة، قلنا لأن العبد فعله لغرض وكل فعل لغرض، فإن الغرض سابق على الفعل في الإدراك، وذلك لأن من يبني بيتاً للسكنى يدخل في ذهنه أولاً فائدة السكنى فيحمله على البناء، لكن الغرض في الوجود لا يكون إلا بعد فعل الواسطة، فنقول الاستعانة من العبد لغرض فهي سابقة في إدراكه، وأما الله تعالى فيس فعله لغرض فراعى ترتيب الوجود، فإن الإعانة قبل العبادة.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٧١
٧٣
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان، فقال لهم إن ما تكرهون لا بد من وقوعه فإن كل نفس ذائقة الموت والموت مفرق الأحباب فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فإن إلى الله مرجعكم، وفيه وجه أرق وأدق، وهو أن الله تعالى قال : كل نفس إذا كانت غير متعلقة بغيرها فهي للموت، ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى :﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ﴾ (الدخان : ٥٦) إذا ثبت هذا فمن يريد ألا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن / النفس ذائقته بل يتعلق بغيره وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت ومورد الهلاك بقوله :﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه ﴾ (القصص : ٨٨) فإذاً التعلق بالله يريح من الموت فقال تعالى ﴿فَإِيَّـاىَ فَاعْبُدُونِ﴾ أي تعلقوا بي، ولا تتبعوا النفس فإنها ذائقة الموت ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (العنكبوت : ٥٧) أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما قال تعالى :﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ﴾ (آل عمران : ١٦٩) وقال عليه السلام :"المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار" فعلى هذا الوجه أيضاً يتبين وجه التعليق.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٧٣
٧٤
بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله :﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة بِالْكَـافِرِينَ﴾ (العنكبوت : ٥٤) فبين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما أن للكافرين النيران، وبين أن فيها غرفاً تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار، وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى :﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ﴾ في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله تعالى :﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ﴾ في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله :﴿ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (العنبكوت : ٥٥) ثم في الآيتين اختلافات فيها لطائف منها أنه تعالى ذكر في العذاب أن فوقهم عذاباً أي ناراً، ولم يذكر ههنا فوقهم شيئاً، وإنما ذكر ما فوق من غير إضافة وهو الغرف، وذلك لأن المذكور في الموضعين العقاب والثواب الجسمانيان، لكن الكافر في الدرك الأسفل من النار، فيكون فوقه طبقات من النار، فأما المؤمنون فيكونون في أعلى عليين، فلم يذكر فوقهم شيئاً إشارة إلى علو مرتبتهم وارتفاع منزلتهم.


الصفحة التالية
Icon