قوله تعالى :﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ﴾ لما بين الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الإنسان بالرزق، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاقه العبادة، وهذه الأصنام ليست كذلك والله مستحقها، وإما لكونه على الشأن والله الذي خلق السموات على الشأن جلي البرهان فله العبادة، وإما لكونه ولي الإحسان والله يرزق الخلق فله الطول والإحسان والفضل والامتنان فله العبادة من هذا الوجه أيضاً قوله :﴿لِمَن يَشَآءُ﴾ إشارة إلى كمال الإحسان، وذلك لأن الملك إذا أمر الخازن بإعطاء شخص شيئاً، فإذا أعطاه يكون له منة ما يسيرة حقيرة، لأن الآخذ يقول هذا ليس بإرادته وإنما هو بأمر الملك، وأما إن كان مختاراً بأن قال له الملك إن شئت فأعطه وإن شئت فلا تعطه، فإن أعطاه يكون له منة جليلة لا قليلة، فقال الله تعالى الرزق منه وبمشيئته فهو إحسان تام يستوجب شكراً تاماً وقوله تعالى :﴿وَيَقْدِرُ لَه ا ﴾ أي يضيق له إن أراد، ثم قال تعالى :/ ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق وفي إثبات العلم ههنا لطائف إحداها : أن الرازق الذي هو كامل المشيئة إذا رأى عبده محتاجاً وعلم جوعه لا يؤخر عنه الرزق، ولا يؤخر الرازق الرزق إلا لنقصان في نفوذ مشيئته كالملك إذا أراد الاطعام والطعام لا يكون بعد قد استوى، أو لعدم علمه بجوع العبيد الثانية : وهي أن الله بإثبات العلم استوعب ذكر الصفات التي هي صفات الإله ومن أنكرها كفر وهي أربعة الحياة والقدرة والإرادة والعلم وأما السمع والبصر والكلام القائم به من ينكرها يكون مبتدعاً لا كافراً، وقد استوفى الأربع، لأن قوله :﴿خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ إشارة إلى كمال القدرة، وقوله :﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ﴾ إشارة إلى نفوذ مشيئته وإرادته، وقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ إشارة إلى شمول علمه، والقادر المريد العالم لا يتصور إلا حياً، ثم إنه تعالى لما قال :﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ذكر اعترافهم بذلك فقال :
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٧٦
٧٦
يعني هذا سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب، فالرزق من الله، ثم قال تعالى :﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ وهو يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون كلاماً معترضاً في أثناء كلام كأنه قال : فأحيا به الأرض من بعد موتها ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ فذكر في أثناء هذا الكلام ﴿الْحَمْدُ﴾ لذكر النعمة، كما قال القائل :
إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
الثاني : أن يكون المراد منه كلاماً متصلاً، وهو أنهم يعرفون بأن ذلك من الله ويعترفون ولا يعملون بما يعلمون، وأنت تعلم وتعمل فكذلك المؤمنون بك فقل الحمد لله وأكثرهم لا يعقلون أن الحمد كله لله فيحمدون غير الله على نعمة هي من الله الثالث : أن يكون المراد أنهم يقولون إنه من الله ويقولون بإلهية غير الله فيظهر تناقض كلامهم وتهافت مذهبهم ﴿فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على ظهور تناقضهم ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ هذا التناقض أو فساد هذا التناقض.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٧٦
٧٦
لما بين أنهم يعترفون بكون الله هو الخالق وكونه هو الرزاق وهم يتركون عبادته ولا يتركونها إلا لزينة الحياة الدنيا بين أن ما يميلون إليه ليس بشيء بقوله :﴿وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا لَهْوٌ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما الفرق بين اللهو واللعب، حتى يصح عطف أحدهما على الآخر ؟
فنقول الفرق من وجهين أحدهما : أن كل شغل يفرض، فإن المكلف إذا أقبل عليه لزمه الإعراض عن غيره ومن لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى، فالذي يقبل على الباطل للذة يسيرة زائلة فيه يلزمه الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو، فالدنيا لعب أي إقبال على الباطل، ولهو أي إعراض عن الحق الثاني : هو أن المشتغل بشيء يرجح ذلك الشيء على غيره لا محالة حتى يشتغل به، فإما أن يكون ذلك الترجيح على وجه التقديم بأن يقول أقدم هذا وذلك الآخر آتي به بعده أو يكون على وجه الاستغراق فيه والإعراض عن غيره بالكلية فالأول لعب والثاني لهو، والدليل عليه هو أن الشطرنج والحمام وغيرهما مما يقرب منهما لا تسمى آلات الملاهي في العرف، والعود وغيره من الأوتار تسمى آلات الملاهي لأنها تلهي الإنسان عن غيرها لما فيها من اللذة الحالية، فالدنيا للبعض لعب يشتغل به ويقول بعد هذا الشغل أشتغل بالعبادة والآخرة، وللبعض لهو يشتغل به وينسى الآخرة بالكلية.


الصفحة التالية
Icon