التفسير ظاهر، وإنما الدقيق وجه تعلق الآية بما قبلها، فنقول الإنسان في البحر يكون على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله المشركين حالهم عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله تعالى ذكرهم حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم، وهي حصين بحصن الله حيث كل من حولها يمتنع من قتال من حصل فيها، والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس ويكفها يعني أنكم في أخوف ما كنتم دعوتم الله وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم بالله، وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير فهذه النعمة العظيمة التي حصلت وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله كيف تكفرون بها ؟
والأصنام التي قطعتم في حال الخوف أن لا أمن منها كيف آمنتم بها في حال الأمن ؟
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٧٩
٧٩
لما بين الله الأمور على الوجه المذكور ولم يؤمن به أحد بين أنهم أظلم من يكون، لأن الظلم على ما بين وضع الشيء في غير موضعه، فإذا وضع واحد شيئاً في موضع ليس هو موضعه يكون ظالماً فإذا وضعه في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول، لأن كل ما لا يمكن لا يحصل وليس كل ما لا يحصل لا يمكن، فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك وجعلوا له شريكاً فلو كان ذلك في حق ملك مستقل في الملك لكان ظلماً يستحق من الملك العقاب الأليم فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك، وأيضاً من كذب صادقاً يجوز عليه الكذب يكون ظلماً فمن يكذب صادقاً لا يجوز عليه الكذب كيف يكون حاله ؟
فإذا ليس أظلم ممن يكذب على الله بالشرك ويكذب الله في تصديق نبيه والنبي في رسالة ربه والقرآن المنزل من الله إلى الرسول، والعجب من المشركين أنهم قبلوا المتخذ من خشب منحوت / بالإلهية، ولم يقبلوا ذا حسب منعوت بالرسالة، والآية تحتمل وجهاً آخر وهو أن الله تعالى لما بين التوحيد والرسالة والحشر وقرره ووعظ وزجر قال لنبيه ليقول للناس :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي إني جئت بالرسالة وقلت إنها من الله وهذا كلام الله، وأنتم كذبتموني فالحال دائر بين أمرين، أما أنا مفتر متنبىء إن كان هذا من عند غير الله أو أنتم مكذبون بالحق إن كان من عنده لكني معترف بالعذاب الدائم عارف به فلا أقدم على الافتراء لأن ﴿جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾ (الزمر : ٣٢) والمتنبىء كافر، وأنتم كذبتموني فجهنم مثواكم إذ هي مثوى للكافرين، وهذا حيئنذٍ يكون كقوله تعالى :﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (سبأ : ٢٤).
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٧٩
٨٠
لما فرغ من التقرير والتقريع ولم يؤمن الكفار سلى قلوب المؤمنين بقوله :﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ أي من جاهد بالطاعة هداه سبل الجنة ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إشارة إلى ما قال :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ فقوله :﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ﴾ إشارة إلى الحسنى وقوله :﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إشارة إلى المعية والقربة التي تكون للمحسن زيادة على حسناته، وفيه وجه آخر حكمي وهو أن يكون المعنى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ أي الذين نظروا في دلائلنا ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ أي لنحصل فيهم العلم بنا. ولنبين هذا فضل بيان، فنقول أصحابنا المتكلمون قالوا إن النظر كالشرط للعلم الاستدلالي والله يخلق في الناظر علماً عقيب نظره ووافقهم الفلاسفة على ذلك في المعنى وقالوا النظر معد للنفس لقبول الصورة المعقولة، وإذا استعدت النفس حصل لها العلم من فيض واهب الصور الجسمانية والعقلية، وعلى هذا يكون الترتيب حسناً، وذلك لأن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تفدهم العلم والإيمان قال : إنهم لم ينظروا فلم يهتدوا وإنما هو هدى للمتقين الذين يتقون التعصب والعناد فينظرون فيهديهم وقوله :﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأنه تعالى قال من الناس من يكون بعيداً لا يتقرب وهم الكفار، ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم ويقربهم ومنهم من يكون الله معه ويكون قريباً منه يعلم الأشياء منه ولا يعلمه من الأشياء، ومن يكون مع الشيء كيف يطلبه فقوله :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ إشارة إلى الأول وقوله :﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ إشارة إلى الثاني وقوله :﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إشارة إلى الثالث.
والله أعلم بأسرار كتابه، والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٨٠
٨١


الصفحة التالية
Icon