لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل، بين أن لهم حالة يعرفون بها، وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدة، فإن عند انقطاع رجائه عن الكل يرجع إلى الله، ويجد نفسه محتاجة إلى شيء ليس كهذه الأشياء طالبة به النجاة ﴿ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ يعني إذا خلصناه يشرك بربه ويقول تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان، وبسبب الصنم الفلاني، لا، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه تخلص بسبب فلان إذا كان ظاهراً فإنه شرك خفي، مثاله رجل في بحر أدركه الغرق فيهيىء له لوحاً يسوقه إليه ريح فيتعلق به وينجو، فيقول تلخصت بلوح، أو رجل أقبل عليه سبع فيرسل الله إليه رجلاً فيعينه فيقول خلصني زيد، فهذا إذا كان عن اعتقاد فهو شرك خفي، وإن كان بمعنى أن الله خلصني على يد زيد فهو أخفى، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى :﴿أَذَاقَهُم﴾ فيه لطيفة وذلك لأن الذوق يقال في القليل فإن العرف (أن) من أكل مأكولاً كثيراً لا يقول ذقت، ويقال في النفي ما ذقت في بيته طعاماً نفياً للقليل ليلزم نفي الكثير بالأولى، ثم إن تلك الرحمة لما كانت خالية منقطعة ولم تكن مستمرة في الآخرة إذ لهم في الآخرة عذاب قال أذاقهم ولهذا قال في العذاب :﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ (القمر : ٤٨) ﴿ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (العنكبوت : ٥٥) ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ (الدخان : ٤٩) لأن عذاب الله الواصل إلى العبد بالنسبة إلى الرحمة الواصلة إلى عبيد آخرين في غاية القلة.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿مِّنْهُ﴾ أي من الضر في هذا التخصيص ما ذكرناه من الفائدة وهي أن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي عن ذلك الضر وحده، وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة.
المسألة الثالثة : قال ههنا ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ وقال في العنكبوت :﴿فَلَمَّا نَجَّـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ (العنكبوت : ٦٥) ولم يقل فريق وذلك لأن المذكور هناك ضر معين، وهو ما يكون من هول البحر والمتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل، والذي لا يشرك به بعد الخلاص فرقة منهم في غاية القلة فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة من خرج من المشركين، وأما المذكور ههنا الضر مطلقاً فيتناول ضر البر والبحر والأمراض والأهون والمتخلص من أنواع الضر خلق كثير بل جميع الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما وتخلصوا منه، والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهو خلق عظيم، وهو جميع المسلمين فإنهم تخلصوا من ضر ولم يبقوا مشركين، وأما المسلمون فلم يتخلصوا من ضر البحر بأجمعهم، فلما كان الناجي من الضر من المؤمنين جمعاً كثيراً، جعل الباقي فريقاً.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٠٢
١٠٤
قوله تعالى :﴿لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَـاهُم فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ قد تقدم تفسيره في العنكبوت بقي بيان فائدة الخطاب ههنا في قوله :﴿فَتَمَتَّعُوا ﴾ وعدمه هناك في قوله :﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا ا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ فنقول لما كان الضر المذكور هناك ضراً واحداً جاز أن لا يكون في ذلك الموضع من المخلصين من ذلك الضر أحد، فلم يخاطب ولما كان المذكور ههنا مطلق الضر ولا يخلو موضع من المخلصين عن الضر، فالحاضر يصح خطابه بأنه منهم فخاطب.
ثم قال تعالى :﴿أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِه يُشْرِكُونَ﴾ لما سبق قوله تعالى :﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَآءَهُم﴾ (الروم : ٢٩) أي المشركون يقولون ما لا علم لهم به بل هم عالمون بخلافه فإنهم وقت الضر يرجعون إلى الله حقق ذلك بالاستفهام بمعنى الانكار، أي ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أم للاستفهام ولا يقع إلا متوسطاً، كما قال قائلهم :
أيا ظبية الوعاء بين جلاجل
وبين النقا آأنت أم أم سالم
فما الاستفهام الذي قبله ؟
فنقول تقديره إذا ظهرت هذه الحجج على عنادهم فماذا نقول، أهم يتبعون الأهواء من غير علم ؟
أم لهم دليل على ما يقولون ؟
وليس الثاني فيتعين الأول.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿فَهُوَ يَتَكَلَّمُ﴾ مجاز كما يقال إن كتابه لينطق بكذا، وفيه معنى لطيف / وهو أن المتكلم من غير دليل كأنه لا كلام له، لأن الكلام هو المسموع وما لا يقبل فكأنه لم يسمع فكأن المتكلم لم يتكلم به، وما لا دليل عليه لا يقبل، فإذا جاز سلب الكلام عن المتكلم عند عدم الدليل وحسن جاز إثبات التكلم للدليل وحسن.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٠٤
١٠٤


الصفحة التالية
Icon