ثم قال تعالى :﴿وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِه ﴾ عطف على ما ذكرنا، أي ليبشركم بصلاح الهواء وصحة الأبدان ﴿وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِه ﴾ بالمطر، وقد ذكرنا أن الإذاقة تقال في القليل، ولما كان أمر الدنيا قليلاً وراحتها نزر قال :﴿وَلِيُذِيقَكُم﴾، وأما في الآخرة فيرزقهم ويوسع عليهم ويديم لهم ﴿وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِه وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله :﴿بِأَمْرِه ﴾ أي الفعل ظاهراً عليه ولكنه بأمر الله، ولذلك لما قال :﴿وَلِتَبْتَغُوا ﴾ مسنداً إلى العباد ذكر بعده ﴿مِّن فَضْلِه ﴾ أي لا استقلال لشيء بشيء وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الترتيب فنقول في الرياح فوائد، منها إصلاح الهواء، ومنها إثارة السحاب، ومنها جريان الفلك بها فقال :﴿مُبَشِّرَاتٍ﴾ بإصلاح الهواء فإن إصلاح الهواء يوجد من نفس الهبوب ثم الأمطار بعده، ثم جريان الفلك فإنه موقوف على اختبار من الآدمي بإصلاح السفن وإلقائها على البحر ثم ابتغاء الفضل بركوبها.
المسألة الثانية : قال في قوله تعالى :﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا ﴾ (الروم : ٤١) وقال ههنا ﴿وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِه ﴾ فخاطب ههنا تشريفاً ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فالمحسن قريب فيخاطب والمسيء بعيد فلم يخاطبهم، وأيضاً قال هناك بعض الذي علموا وقال ههنا ﴿مِّن رَّحْمَتِه ﴾ فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته وفيه معنيان : أحدهما : ما ذكرنا أن الكريم لا يذكر لإحسانه ورحمته عوضاً، وإن وجد فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني. وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي وثانيهما : أن ما يكون بسبب فعل العبد قليل، فلو قال أرسلت الرياح بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال ﴿مِّن رَّحْمَتِه ﴾ كان غاية البشارة، ومعنى ثالث وهو أنه لو قال بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة، وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم ينبىء عن نقصان عقابهم وهو كذلك.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٠٩
المسألة الثالثة : قال هناك ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ وقال ههنا ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ قالوا وإشارة إلى أن توفيقهم للشكر من النعم فعطف على النعم.
المسألة الرابعة : إنما أخر هذه الآية لأن في الآيات التي قد سبق ذكرها قلنا إنه ذكر من كل باب آيتين فذكر من المنذرات ﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾ والحادث في الجو في أكثر الأمر نار وريح فذكر الرياح ههنا تذكيراً وتقريراً للدلائل، ولما كانت الريح فيها فائدة غير المطر وليس في البرق فائدة إن لم يكن مطر ذكر هناك خوفاً وطمعاً، أي قد يكون وقد لا يكون وذكر ههنا ﴿مُبَشِّرَاتٍ﴾ / لأن تعديل الهواء أو تصفيته بالريح أمر لازم، وحكمه به حكم جازم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٠٩
١١١
لما بين الأصلين ببراهين ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال :﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا﴾ أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شغل غير شغلك، ولم يظهر عليهم غير ما ظهر عليك ومن كذبهم أصابهم البوار ومن آمن بهم كان لهم الانتصار وله وجه آخر يبين تعلق الآية بما قبلها وهو أن الله لما بين البراهين ولم ينتفع بها الكفار سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلّم وقال حال من تقدمك كان كذلك وجاءوا أيضاً بالبينات، وكان في قومهم كافر ومؤمن كما في قومك فانتقمنا من الكافرين ونصرنا المؤمنين، وفي قوله تعالى :﴿وَكَانَ حَقًّا﴾ وجهان : أحدهما : فانتقمنا، وكان الانتقام حقاً واستأنف وقال علينا نصر المؤمنين وعلى هذا يكون هذا بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم أي علينا نصركم أيها المؤمنون والوجه الثاني :﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا﴾ أي نصر المؤمنين كان حقاً علينا وعلى الأول لطيفة وعلى الآخر أخرى، أما على الأول فهو أنه لما قال فانتقمنا بين أنه لم يكن ظلماً وإنما كان عدلاً حقاً، وذلك لأن الانتقام لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلا زيادة الإثم وولادة الكافر الفاجر وكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث، وعلى الثاني تأكيد البشارة. لأن كلمة على تفيد معنى اللزوم يقال على فلان كذا ينبىء عن اللزوم، فإذا قال حقاً أكد ذلك المعنى، وقد ذكرنا أن النصر هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة، فإن إحدى الطائفتين إذا انهزمت أولاً، ثم عادت آخراً لا يكون النصر إلا للمنهزم، وكذلك موسى وقومه لما انهزموا من فرعون ثم أدركه الغرق لم يكن انهزامهم إلا نصرة، فالكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١١١
١١١


الصفحة التالية
Icon