إشارة إلى ما يكون بعد الكهولة من ظهور النقصان والشيبة هي تمام الضعف، ثم بين بقوله ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ إن هذا ليس طبعاً بل هو بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى في دلائل الآفاق ﴿فَيَبْسُطُه فِى السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ (الروم : ٤٨) ﴿هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ لما قدم العلم على القدرة ؟
وقال من قبل ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الروم : ٢٧) فالعزة إشارة إلى تمام القدرة والحكمة إلى العلم، فقدم القدرة هناك وقدم العلم على القدرة ههنا فنقول هناك المذكور الإعادة بقوله :﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الروم : ٢٧) لأن الإعادة تكون بكن فيكون، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الابداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر، ثم إن قوله تعالى :﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ تبشير وإنذار لأنه إذا كان عالماً بأعمال الخلق كان عالماً بأحوال المخلوقات فإن عملوا خيراً علمه وإن عملوا شراً علمه، ثم إذا كان قادراً فإذا علم الخير أثاب وإذا علم الشر عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب الذين هما بالقدرة قدم العلم، وأما في الآخرة فالعلم بتلك الأحوال مع العقاب فقال :﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ وإلى مثل هذا مثل هذا أشار في قوله :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (المؤمنون : ١٤) عقيب خلق الإنسان، فنقول أحسن إشارة إلى العلم لأن حسن الخلق بالعلم، والخلق المفهوم من قوله :﴿الْخَالِقِينَ﴾ إشارة إلى القدرة، ثم لما بين ذكر الابداء والاعادة كالابداء ذكره بذكر أحوالها وأوقاتها.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١١٢
١١٢
قيل ما لبثوا في الدنيا غير ساعة. وقيل ما لبثوا في القبور، وقيل ما لبثوا من وقت فناء الدنيا إلى وقت النشور ﴿كَذَالِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾ يصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١١٢
١١٤
قوله :﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالايمَانَ﴾ من الملائكة وغيرهم ﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ﴾ ونحن نبين ما هو المعنى اللطيف في هاتين الآيتين، فنقول الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله، والموعد بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها، لكن المجرم إذا حشر علم أن مصيره إلى النار فيستقل مدة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر، والمؤمن إذا حشر علم أن مصيره إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد التأخير فيختلف الفريقان ويقول أحدهما إن مدة لبثنا قليل وإليه الإشارة بقوله :﴿يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ ويقول الآخر لبثنا مديداً وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالايمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ﴾ يعني كان في كاتب الله ضرب الأجل إلى يوم البعث ونحن صبرنا إلى يوم البعث ﴿فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ يعني طلبكم التأخير، لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به، فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١١٤
١١٤
أي لا يطلب منهم الإعتاب وهو إزالة العتب يعني التوبة التي تزيل آثار الجريمة لا تطلب منهم لأنها لا تقبل منهم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١١٤
١١٤
قوله :﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار، وإلى أنه لم يبق من جانب الرسول تقصير، فإن طلبوا شيئاً آخر فذلك عناد ومن هان عليه تكذيب دليل لا يصعب عليه تكذيب الدلائل، بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل / آخر بعد ما ذكر دليلاً جيداً مستقيماً ظاهراً لا غبار عليه وعانده الخصم، لأنه إما أن يعترف بورود سؤال الخصم عليه أو لا يعترف، فإن اعترف يكون انقطاعاً وهو يقدح في الدليل أو المستدل، إما بأن الدليل فاسد، وإما بأن المستدل جاهل بوجه الدلالة والاستدلال، وكلاهما لا يجوز الاعتراف به من العالم فكيف من النبي عليه الصلاة والسلام، وإن لم يعترف يكون الشروع في غيره موهماً أن الخصم ليس معانداً فيكون اجتراؤه على العناد في الثاني أكثر لأنه يقول العناد أفاد في الأول حيث التزم ذكر دليل آخر. فإن قيل فالأنبياء عليهم السلام ذكروا أنواعاً من الدلائل، نقول سردوها سرداً، ثم قرروها فرداً فرداً، كمن يقول الدليل عليه من وجوه : الأول كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، وفي مثل هذا الواجب عدم الالتفات إلى عناد المعاند لأنه يزيده بعناده حتى يضيع الوقت فلا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدلائل فتنحط درجته فاذن لكل مكان مقال. وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله تعالى :﴿وَلَا ِن جِئْتَهُم بِاَايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ﴾ وفي توحيد الخطاب بقوله :﴿وَلَا ِن جِئْتَهُم﴾ والجمع في قوله :﴿إِنْ أَنتُمْ﴾ لطيفة وهي أن الله تعالى قال :﴿وَلَا ِن جِئْتَهُم بِاَايَةٍ﴾ جاءت بها الرسل ويمكن أن يجاء بها يقولون أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون. ثم بين تعالى أن ذلك بطبع الله على قلوبهم بقوله :﴿كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ فإن قيل من لا يعلم شيئاً أية فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه ؟
نقول المعنى هو أن من لا يعلم الآن فقد طبع الله على قلبه من قبل، ثم إنه تعالى سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله :﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ أي أن صدقك يبين وقوله :﴿وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾ إشارة إلى وجوب مداومة النبي عليه الصلاة والسلام على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر إنه متقلب الرأي، لا ثبات له. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١١٤
١١٥