لما أمره أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وكان يخشى بعدهما من أمرين أحدهما : التكبر على الغير بسبب كونه مكملاً له والثاني : التبختر في النفس بسبب كونه كاملاً في نفسه فقال :﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ تكبراً ﴿وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا ﴾ تبختراً ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ يعني من يكون به خيلاء وهو الذي يرى الناس عظمة نفسه وهو التكبر ﴿فَخُورٍ﴾ يعني من يكون مفتخراً بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه، وفي الآية لطيفة وهو أن الله تعالى قدم الكمال على التكميل حيث قال ﴿أَقِمِ الصَّلَواةَ﴾ ثم قال :﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وفي النهي قدم ما يورثه التكميل على ما يورثه الكمال حيث قال :﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ﴾ ثم قال :﴿وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا ﴾ لأن في طرف الإثبات من لا يكون كاملاً لا يمكن أن يصير مكملاً فقدم الكمال، وفي طرف النفي من يكون متكبراً على غيره متبختراً لأنه لا يتكبر على الغير إلا عند اعتقاده أنه أكبر منه من وجه، وأما من يكون متبختراً في نفسه لا يتكبر، ويتوهم أنه يتواضع للناس فقدم نفي التكبر ثم نفي التبختر، لأنه لو قد نفي التبختر للزم منه نفي التكبر فلا يحتاج إلى النهي عنه. ومثاله أنه لا يجوز أن يقال لا تفطر ولا تأكل، لأن من لا يفطر لا يأكل، ويجوز أن يقال لا تأكل / ولا تفطر، لأن من لا يأكل قد يفطر بغير الأكل، ولقائل أن يقول إن مثل هذا الكلام يكون للتفسير فيقول لا تفطر ولا تأكل أي لا تفطر بأن تأكل ولا يكون نهيين بل واحداً.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٢٤
١٢٦
لما قال :﴿وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا ﴾ وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالف غاية الاختلاف، وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهداً فقال :﴿وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ﴾ أي كن وسطاً بين الطرفين المذمومين، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : هل للأمر بالغض من الصوت مناسبة مع الأمر بالقصد في المشي ؟
فنقول : نعم سواء علمناها نحن أو لم نعلمها وفي كلام الله من الفوائد ما لا يحصره حد ولا يصيبه عد، ولا يعلمه أحد والذي يظهر وجوه الأول : هو أن الإنسان لما كان شريفاً تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطراً فأقدر الله الإنسان على تحصيلها بالمشي، فإن عجز عن إدراك مقصوده ينادي مطلوبه فيقف له أو يأتيه مشياً إليه فإن عجز عن إبلاغ كلامه إليه، وبعض الحيوانات يشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت كما أن الغنم تطلب السخلة والبقرة العجل والناقة الفصيل بالثغاء والخوار والرغاء ولكن لا تتعدى إلى غيرها، والإنسان يميز البعض عن البعض فإذا كان المشي والصوت مفضيين إلى مقصود واحد لما أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر الثاني : هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء عمل بالجوارح يشاركه فيه الحيوانات فإنه حركة وسكون، وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره وعزم بالقلب وهو لا اطلاع عليه إلا لله، وقد أشار إليه بقوله :﴿إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾ أي أصلح ضميرك فإن الله خبير، بقي الأمران فقال :﴿وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ﴾ إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال الثالث : هو أن لقمان أراد إرشاد ابنه إلى السداد في الأوصاف الإنسانية والأوصاف التي هي للملك الذي هو أعلى مرتبة منه، والأوصاف التي للحيوان الذي هو أدنى مرتبة منه. فقوله :﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ إشارة إلى المكارم المختصة بالإنسان فإن الملك لا يأمر ملكاً آخر بشيء ولا ينهاه عن شيء. وقوله :﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا ﴾ الذي هو إشارة إلى عدم التكبر والتبختر إشارة إلى المكارم التي هي صفة الملائكة فإن عدم التكبر والتبختر صفتهم. وقوله :﴿وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ﴾ إشارة إلى المكارم التي هي صفة الحيوان ثم قال تعالى :﴿أَنكَرَ الاصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٢٦
المسألة الأولى : لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي، نقول أما على قولنا إن المشي والصوت كلاهما موصلان إلى شخص مطلوب إن أدركه بالمشي إليه فذاك، وإلا فيوقفه بالنداء، فنقول رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن. وأما السرعة في المشي فلا تؤذي أو إن كانت تؤذي فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين واليسار، ولأن المشي يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب، فإن الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ولا كذلك المشي، وأما على قولنا الإشارة بالشيء والصوت إلى الأفعال والأقوال فلأن القول قبيحه أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان ترجمان القلب والاعتبار يصحح الدعوى.


الصفحة التالية
Icon