ثم قال تعالى :﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ فِى اللَّهِ﴾ يعني لما ثبت الوحدانية بالخلق والإنعام فمن الناس من يجادل في الله ويثبت غيره، إما إلهاً أو منعماً ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ﴾ هذه أمور ثلاثة مرتبة العلم والهدى والكتاب، والعلم أعلى من الهدى والهدى من الكتاب، وبيانه هو أن العلم تدخل فيه الأشياء الواضحة اللائحة التي تعلم من غير هداية هاد، ثم الهدى يدخل فيه الذي يكون في كتاب والذي يكون من إلهام ووحي، فقال تعالى :﴿يُجَـادِلُ﴾ ذلك المجادل لا من علم واضح، ولا من هدى أتاه من هاد، ولا من كتاب وكأن الأول إشارة إلى من أوتي من لدنه علماً كما قال تعالى :﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ﴾ (النساء : ١١٣) والثاني : إشارة إلى مرتبة من هدى إلى صراط مستقيم بواسطة كما قال تعالى :﴿عَلَّمَه شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ (النجم : ٥) والثالث : إشارة إلى مرتبة من اهتدى بواسطتين ولهذا قال تعالى :﴿الاـم * تِلْكَ ءَاَيَـاتُ الْكِتَـابِ الْحَكِيمِ﴾ (البقرة : ٢) وقال في هذه السورة :﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ (لقمان : ٣) وقال في السجدة :﴿وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَجَعَلْنَـاهُ هُدًى لِّبَنِى إسرائيل ﴾ (الإسراء : ٢) فالكتاب هدى لقوم النبي عليه السلام، والنبي هداه من الله تعالى من غير واسطة أو بواسطة الروح الأمين، فقال تعالى : يجادل من يجادل لا بعلم آتيناه من لدنا كشفاً، ولا بهدى أرسلناه إليه وحياً/ ولا بكتاب يتلى عليه وعظاً. ثم فيه لطيفة أخرى وهو أنه تعالى قال في الكتاب :﴿وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ﴾ لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف، فلو قال / ولا كتاب لكان لقائل أن يقول لا يجادل من غير كتاب، فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ولأن المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث عن كتابهم، فقال :﴿وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ﴾ فإن ذلك الكتاب مظلم، ولما لم يحتمل في المرتبة الأولى والثانية التحريف والتبديل لم يقل بغير علم ولا هدى منير أو حق أو غير ذلك.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٢٦
١٢٧
قوله تعالى :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ﴾ بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القبح فإن النبي عليه السلام يدعوهم إلى كلام الله، وهم يأخذون بكلام آبائهم، وبين كلام الله تعالى وكلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهلاء ثم إن ههنا شيئاً آخر وهو أنهم قالوا :﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ﴾ يعني نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل، والقول أدل من الفعل لأن الفعل يحتمل أن يكون جائزاً، ويحتمل أن يكون حراماً، وهم تعاطوه، ويحتمل أن يكون واجباً في اعتقادهم والقول بين الدلالة، فلو سمعنا قول قائل افعل ورأينا فعله يدل على خلاف قوله، لكان الواجب الأخذ بالقول، فكيف والقول من الله والفعل من الجهال، ثم قال تعالى :﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَـانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ استفهاماً على سبيل التعجب في الإنكار يعني الشيطان يدعوهم إلى العذاب والله يدعو إلى الثواب، وهم مع هذا يتبعون الشيطان. ثم قال تعالى :﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَه ا إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ا وَإِلَى اللَّهِ عَـاقِبَةُ الامُورِ﴾ لما بين حال المشرك والمجادل في الله بين حال المسلم المستسلم لأمر الله فقوله :﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَه ا إِلَى اللَّهِ﴾ إشارة إلى الإيمان وقوله :﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ إشارة إلى العمل الصالح فتكون الآية في معنى قوله تعالى :﴿مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ وقوله :﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ أي تمسك بحبل لا انقطاع له وترقى بسببه إلى أعلى المقامات وفي الآية مسائل :
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٢٧


الصفحة التالية
Icon