ثم قال تعالى :﴿فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا﴾ يعني إذا كان الأمر كذلك فلا تغتروا بالدنيا فإنها زائلة لوقوع (ذلك) اليوم المذكور بالوعد الحق.
ثم قال تعالى :﴿وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ يعني الدنيا لا ينبغي أن تغركم بنفسها ولا ينبغي أن تغتروا (بها) وإن حملكم على محبتها غار من نفس أمارة أو شيطان فكان الناس على أقسام منهم من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويؤمله ويقول إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة، فنهاهم عن الأمرين وقال كونوا قسما ثالثاً، وهم الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٣٥
١٣٥
يقول بعض المفسرين إن الله تعالى نفى علم أمور خمسة بهذه الآية عن غيره وهو كذلك لكن المقصود ليس ذلك، لأن الله يعلم الجوهر الفرد الذي كان في كثيب رمل في زمان الطوفان ونقله الريح من المشرق إلى المغرب كم مرة، ويعلم أنه أين هو ولا يعلمه غيره، ولأن يعلم أنه يوجد بعد هذه السنين ذرة في برية لا يسلكها أحد ولا يعلمه غيره، فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنما الحق فيه أن نقول لما قال الله :﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه ﴾ وذكر أنه كائن بقوله :﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ كأن قائلاً قال فمتى يكون هذا اليوم فأجيب بأن هذا العلم ما لم يحصل لغير الله ولكن هو كائن، ثم ذكر الدليلين الذين ذكرناهما مراراً على البعث أحدهما : إحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى :﴿وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِه لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى ا ءَاثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآا إِنَّ ذَالِكَ لَمُحْىِ الْمَوْتَى ﴾ (الروم : ٤٩، ٥٠) وقال تعالى :﴿وَيُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَالِكَ تُخْرَجُونَ﴾ (الروم : ١٩) وقال ههنا يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله قادر عليها كما هو قادر على إحياء الأرض حيث قال ﴿وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ (الشورى : ٢٨) وقال :﴿يُخْرِجُ الْحَىَّ﴾ (الروم : ١٩) / وثانيهما : الخلق ابتداء كما قال :﴿اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ا ﴾ (الروم : ٢٧) وقال تعالى :﴿قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَا ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الاخِرَةَ ﴾ (العنكبوت : ٢٠) إلى غير ذلك فقال ههنا ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِى الارْحَامِ ﴾ إشارة إلى أن الساعة وإن كنت لا تعلمها لكنها كائنة والله قادر عليها، وكما هو قادر على الخلق في الأرحام كذلك يقدر على الخلق من الرخام، ثم قال لذلك الطالب علمه : يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها، فلك أشياء أهم منها لا تعلمها، فإنك لا تعلم معاشك ومعادك، ولا تعلم ماذا تكسب غداً مع أنه فعلك وزمانك، ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك، فكيف تعلم قيام الساعة متى تكون، فالله ما أعلمك كسب غدك مع أن لك فيه فوائد تبنى عليها الأمور من يومك، ولا أعلمك أين تموت مع أن لك فيه أغراضاً تهيىء أمورك بسبب ذلك العلم وإنما لم يعلمك لكي تكون في وقت بسبب الرزق راجعاً إلى الله تعالى متوكلاً على الله ولا أعلمك الأرض التي تموت فيها كي لا تأمن الموت وأنت في غيرها، فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه، وهي الساعة، وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمت الله على لسان أنبيائه.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٣٥
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ ﴾ لما خصص أولا علمه بالأشياء المذكورة، بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ ذكر أن علمه غير مختص بها، بل هو عليم مطلقاً بكل شيء، وليس علمه علماً بظاهر الأشياء فحسب، بل خبير علمه واصل إلى بواطن الأشياء، والله أعلم بالصواب.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٣٥
١٣٦


الصفحة التالية
Icon