﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةًا قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ (البقرة : ٣٠) فقال الله تعالى في جوابهم :﴿إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة : ٣٠) أي أعلم أن هذا القسم يناسب الحكمة لأن الخير فيه كثير، ثم بين لهم خيره بالتعليم، كما قال تعالى :﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة : ٣١) يعني أيها الملائكة خلق الشر المحض والشر الغالب والشر المساوي لا يناسب الحكمة. وأما الخير الكثير المشوب بالشر القليل مناسب، فقوله تعالى :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ إشارة إلى الشر، وأجابهم الله بما فيه من الخير بقوله :﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ﴾ فإن قال قائل فالله تعالى قادر على تخليص هذا القسم من الشر بحيث لا يوجد فيه شر فيقال له ما قاله الله تعالى :﴿وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا﴾ (السجدة : ١٣) يعني لو شئنا لخلصنا الخير من الشر، لكن حينئذٍ لا يكون الله تعالى خلق الخير الكثير المشوب بالشر القليل وهو قسم معقول، فما كان يجوز تركه للشر القليل وهو لا يناسب الحكمة، لأن ترك الخير الكثير للشر القليل غير مناسب للحكمة، وإن كان لا كذلك فلا مانع من خلقه فيخلقه لما فيه من الخير الكثير، وهذا الكلام يعبر عنه من يقول برعاية المصالح إن الخير في القضاء والشر في القدر، فالله قضى بالخير ووقع الشر في القدر بفعله المنزه عن القبح والجهل، وقوله :﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ لأنه تعالى قال لإبليس :﴿لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ﴾ (ص : ٨٥) وهذا إشارة إلى أن النار لمن في العالم السفلي، والذين في العالم العلوي مبرءون عن دخول النار وهم الملائكة، وهذا يقتضي أن لا يكون إبليس من الملائكة وهو الصحيح. وقوله :﴿أَجْمَعِينَ﴾ يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون تأكيداً وهو الظاهر والثاني : أن يكون حالاً، أي مجموعين، فإن قيل كيف جعل جميع الإنس والجن مما يملأ بهم النار ؟
نقول هذا لبيان الجنس، أي جهنم تملأ من الجن والإنس لا غير أمناً للملائكة، ولا يقتضي ذلك دخول الكل كما يقول القائل ملأت الكيس من الدراهم لا يلزم أن لا يبقى درهم خارج الكيس، فإن قيل فهذا يقتضي أن تكون جهنم ضيقة تمتلىء ببعض الخلق نقول هو كذلك وإنما الواسع الجنة التي هي من الرحمة الواسعة والله أعلم. ولما بين الله تعالى بقوله :﴿وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا﴾ أنهم لا رجوع لهم قال لهم إذا علمتم أنكم لا رجوع لكم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٤٦
١٤٦
المسألة الأولى : قوله :﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ﴾ لقاء يحتمل أن يكون منصوباً بذوقوا، أي ذوقوا لقاء يومكم بما نسيتم، وعلى هذا يحتمل أن يكون المنسي هو الميثاق الذي أخذ منهم بقوله :﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى ﴾ (الأعراف : ١٧٢) أو بما في الفطرة من الوحدانية فينسى بالإقبال على الدنيا والاشتغال بها ويحتمل أن يكون منصوباً بقوله :﴿نَسِيتُمْ﴾ أي بما نسيتم لقاء هذا اليوم ذوقوا، وعلى هذا لو قال قائل النسيان لا يكون إلا في المعلوم أولاً إذا جهل آخراً نقول لما ظهرت براهينه فكأنه ظهر وعلم، ولما تركوه بعد الظهور ذكر بلفظ النسيان إشارة إلى كونهم منكرين لأمر ظاهر كمن ينكر أمراً كان قد علمه.
المسألة الثانية : قوله تعالى هذا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون إشارة إلى اليوم، أي فذوقوا بما نسيتم لقاء هذا اليوم وثانيها : أن يكون إشارة إلى لقاء اليوم، أي فذوقوا بما نسيتم هذا اللقاء وثالثها : أن يكون إشارة إلى العذاب، أي فذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم، ثم قال إنا نسيناكم، أي تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعله الناسي قطعاً لرجائكم، ثم ذكر ما يلزم من تركه إياهم كما يترك الناسي وهو خلود العذاب، لأن من لا يخلصه الله فلا خلاص له، فقال :﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٤٦
١٤٧
إشارة إلى أن الإيمان بالآيات كالحاصل، وإنما ينساه البعض فإذا ذكر بها خرّ ساجداً له، يعني انقادت أعضاؤه له، وسبح بحمده، يعني ويحرك لسانه بتنزيهه عن الشرك، وهم لا يستكبرون، يعني وكان قلبه خاشعاً لا يتكبر ومن لا يستكبر عن عبادته فهو المؤمن حقاً.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٤٧
١٤٨


الصفحة التالية
Icon