ثم قال تعالى :﴿وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَـابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَـاجِرِينَ إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى ا أَوْلِيَآاـاِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَالِكَ فِى الْكِتَـابِ مَسْطُورًا﴾ إشارة إلى الميراث، وقوله :﴿إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى ا أَوْلِيَآاـاِكُم مَّعْرُوفًا ﴾ إشارة إلى الوصية، يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم، فإن قيل فعلى هذا أي تعلق للميراث والوصية بما ذكرت نقول تعلق قوي خفي لا يتبين إلا لمن هداه الله بنوره، وهو أن غير النبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته لا يصير له مال الغير، وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته، والنبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أراده ولا يصير ماله لورثته بعد وفاته كأن الله تعالى عوض النبي عليه الصلاة والسلام عن قطع ميراثه بقدرته على تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه يرجع إليهم، حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أراد شيئاً يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم ولا يرجع إليهم فقال تعالى :﴿وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ يعني بينكم التوارث فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم الثاني : هو أن الله تعالى ذكر دليلاً على أن النبي عليه الصلاة والسلام أولي بالمؤمنين وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض، ثم إذا أراد أحد براً مع صديق فيوصي له بشيء فيصير أولى من قريبه وكأنه بالوصية قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا إلى من أريده/ فكذلك الله تعالى جعل لصديقه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره وقوله :"كان ذلك في الكتاب مسطوراً" فيه وجهان أحدهما : في القرآن وهو آية المواريث والوصية والثاني : في اللوح المحفوظ.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٥٩
١٦١
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله :﴿مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ (الأحزاب : ١) وأكده بالحكاية التي خشى فيها الناس لكي لا يخشى فيها أحداً غيره وبين أنه لم يرتكب أمراً يوجب الخشية بقوله :﴿النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ (الأحزاب : ٦) أكده بوجه آخر وقال :﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ﴾ كأنه قال اتق الله ولا تخف أحداً واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الميثاق المأخوذ من النبيين إرسالهم وأمرهم بالتبليغ.
المسألة الثانية : خص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة فذكرهما احتجاجاً على قومهما، وإبراهيم كان العرب يقولون بفضله وكانوا يتبعونه في الشعائر بعضها، ونوحاً لأنه كان أصلاً ثانياً للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان، وعلى هذا لو قال قائل فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الإرشاد للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب، وأما نوح فكان مخلوقاً للنبوة وأرسل للإنذار ولهذا أهلك قومه وأغرقوا.
المسألة الثالثة : في كثير من المواضع يقول الله :﴿عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ (البقرة : ٨٧) ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ (المائدة : ١٧) إشارة إلى أنه لا أب له إذ لو كان لوقع التعريف به، وقوله :﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا﴾ غلظ الميثاق هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال تعالى :﴿فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ﴾ (الأعراف : ٦) وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولاً وأمره بشيء وقبله فهو ميثاق، فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون ذلك تغليظاً للميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، وعلى هذا يمكن أن يقال بأن المراد من قوله تعالى :﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء : ٢١) هو الإخبار بأنهم مسؤلون عنها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" وكما أن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء جعل الأنبياء قائمين بأمور أمتهم وإرشادهم إلى سبيل الرشاد.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٦١
١٦١
يعني أرسل الرسل وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب، لأن الصادق محاسب والكافر معذب، وهذا كما قال علي عليه السلام :"الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب" وهذا مما يوجب الخوف العام فيتأكد قوله :﴿مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٦١


الصفحة التالية
Icon