وجه التعلق هو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله :"الصلاة وما ملكت أيمانكم" ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله :﴿مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ (الأحزاب : ١) ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولهذا قدمهن في النفقة، وفي الآية مسائل فقهية منها أن التخيير / هل كان واجباً على النبي عليه السلام أم لا ؟
فنقول التخيير قولاً كان واجباً من غير شك لأنه إبلاغ الرسالة، لأن الله تعالى لما قال له قل لهم صار من الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا ؟
والظاهر أنه للوجوب، ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي صلى الله عليه وسلّم لقوله تعالى :﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا﴾ ومنها أن واحدة منهن إن اختارت نفسها وقلنا بأنها لا تبين إلا بإنابة من جهة النبي عليه السلام فهل كان يجب على النبي عليه السلام الطلاق أم لا ؟
الظاهر نظراً إلى منصب النبي عليه السلام أنه كان يجب، لأن الخلف في الوعد من النبي غير جائز بخلاف واحد منا، فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا، والظاهر أنها لا تحرم، وإلا لا يكون التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا، ومنها أن من اختارت الله ورسوله كان يحرم على النبي عليه الصلاة والسلام طلاقها أم لا ؟
الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه الصلاة والسلام على معنى أن النبي عليه السلام لا يباشره أصلاً، بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب، وفيها لطائف لفظية منها تقديم اختيار الدنيا، إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام غير ملتفت إلى جانبهن غاية الالتفات وكيف وهو مشغول بعبادة ربه، ومنها قوله عليه السلام :
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٦٧
﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا﴾ إشارة إلى ما ذكرنا، فإن السراح الجميل مع التأذي القوي لا يجتمع في العادة، فعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يتأثر من اختيارهن فراقه بدليل أن التسريح الجميل منه، ومنها قوله :﴿وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ﴾ إعلاماً لهن بأن في اختيار النبي عليه السلام اختيار الله ورسوله والدار الآخرة وهذه الثلاثة هي الدين وقوله :﴿أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـاتِ مِنكُنَّ﴾ أي لمن عمل صالحاً منكن، وقوله :﴿تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه وَالدَّارَ الاخِرَةَ﴾ فيه معنى الإيمان، وقوله :﴿لِلْمُحْسِنَـاتِ﴾ لبيان الإحسان حتى تكون الآية في المعنى، كقوله تعالى :﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَه ا إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ (لقمان : ٢٢) وقوله تعالى :﴿مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ (الكهف : ٨٨) وقوله :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ (البقرة : ٨٢) والأجر العظيم الكبير في الذات الحسن في الصفات الباقي في الأوقات، وذلك لأن العظيم في الأجسام لا يطلق إلا على الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق/ حتى لو كان زائداً في الطول يقال له طويل، ولو كان زائداً في العرض يقال له عريض، وكذلك العميق، فإذا وجدت الأمور الثلاثة قيل عظيم، فيقال جبل عظيم إذا كان عالياً ممتداً في الجهات، وإن كان مرتفعاً فحسب يقال جبل عال، إذا عرفت هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن جهة قبح، لما في مأكوله من الضرر والثقل، وكذلك في مشروبه وغيره من اللذات وغير دائم، وأجر الآخرة كثير خال عن جهات القبح دائم فهو عظيم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٦٧
١٦٧


الصفحة التالية
Icon