لما بين الله حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان بين حال الكافرين بأنعمه، بحكاية أهل سبأ، وفي سبأ قراءتان بالفتح على أنه اسم بقعة وبالجر مع التنوين على أنه اسم قبيلة وهو الأظهر، لأن الله جعل الآية لسبأ والفاهم هو العاقل لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار الأهل وقوله :﴿ءَايَةً﴾ أي من فضل ربهم، ثم بينها بذكر بدله بقوله :﴿جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾ قال الزمخشري أية آية في جنتين، مع أن بعض بلاد العراق فيها آلاف من الجنان ؟
وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتان أو عن يمين بلدهم وشمالها جماعتان من الجنات، ولاتصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة، قوله :﴿كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ﴾ إشارة إلى تكميل النعم عليهم / حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض، وقوله :﴿وَاشْكُرُوا لَه ا ﴾ بيان أيضاً لكمال النعمة، فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة، ثم لما بين حالهم في مساكنهم وبساتينهم وأكلهم أتم بيان النعمة بأن بين أن لا غائلة عليه ولا تبعة في المآل في الدنيا، فقال :﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ أي طاهرة عن المؤذيات لا حية فيها ولا عقرب ولا وباء ولا وخم، وقال :﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة، فعند هذا بان كمال النعمة حيث كانت لذة حالية خالية عن المفسد المآلية.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٢
٢٠٢
ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال :﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَالِكَ جَزَيْنَـاهُم بِمَا كَفَرُوا ا وَهَلْ نُجَـازِى إِلا الْكَفُورَ﴾.
فبين كمال ظلمهم بالإعراض بعض إبانة الآية كما قال تعالى :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ ﴾ ثم بين كيفية الانتقام منهم كما قال :﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾ (السجدة : ٢٢) وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلاً غرق أموالهم وخرب دورهم، وفي العرم وجوه أحدها : أنه الجرذ الذي سبب خراب السكر، وذلك من حيث إن بلقيس كانت قد عمدت إلى جبال بينها شعب فسدت الشعب حتى كانت مياه الأمطار والعيون تجتمع فيها وتصير كالبحر وجعلت لها أبواباً ثلاثة مرتبة بعضها فوق بعض وكانت الأبواب يفتح بعضها بعد بعض. فنقب الجرذ السكر، وخرب السكر بسببه وانقلب البحر عليهم وثانيها : أن العرب اسم السكر وهو جمع العرمة وهي الحجارة ثالثها : اسم للوادي الذي خرج منه الماء وقوله :﴿وَبَدَّلْنَـاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾ بين به دوام الخراب، وذلك لأن البساتين التي فيها الناس يكون فيها الفواكه الطيبة بسبب العمارة فإذا تركت سنين تصير كالغيضة والأجمة تلتف الأشجار بعضها ببعض وتنبت المفسدات فيها فتقل الثمار وتكثر الأشجار، والخمط كل شجرة لها شوك أو كل شجرة ثمرتها مرة، أو كل شجرة ثمرتها لا تؤكل، والأثل نوع من الطرفاء ولا يكون عليه ثمرة إلا في بعض الأوقات، يكون عليه شيء كالعفص أو أصغر منه في طعمه وطبعه، والسدر معروف وقال فيه قليل لأنه كان أحسن أشجارهم فقلله الله، ثم بين الله أن ذلك كان مجازاة لهم على كفرانهم فقال :﴿ذَالِكَ جَزَيْنَـاهُم بِمَا كَفَرُوا ا وَهَلْ﴾ أي لا نجازي بذلك الجزاء ﴿نُجَـازِى إِلا الْكَفُورَ﴾ قال بعضهم المجازاة تقال في النقمة والجزاء / في النعمة لكن قوله تعالى :﴿ذَالِكَ جَزَيْنَـاهُم﴾ يدل على أن الجزاء يستعمل في النقمة، ولعل من قال ذلك أخذه من أن المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر تكون بين اثنين، يأخذ من كل واحد جزاء في حق الآخر. وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله تعالى مبتدىء بالنعم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٢
٢٠٣


الصفحة التالية
Icon