ثم قال تعالى :﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ قد ذكرنا مراراً أن العامة يعبدون الله لا لكونه إلهاً، وإنما يطلبون به شيئاً، وذلك إما دفع ضرر أو جر نفع فنبه الله تعالى العامة بقوله :﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم﴾ (سبأ : ٢٢) على أنه لا يدفع الضر أحد إلا هو كما قال تعالى :﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَه ا إِلا هُوَ ﴾ (الأنعام : ١٧ يونس : ١٠٧) وقال بعد إتمام بيان ذلك ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به ومنه، فإذاً إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعلوه وكبريائه سواء دفع عنكم ضراً أو لم يدفع وسواء نفعكم بخير أو لم ينفع فإن لم تكونوا كذلك فاعبدوه لدفع الضر وجر النفع.
ثم قال تعالى :﴿قُلِ اللَّهُ﴾ يعني إن لم يقولوا هم فقل أنت الله يرزق وههنا لطيفة : وهي أن الله تعالى عند الضر ذكر أنهم يقولون الله ويعترفون بالحق حيث قال :﴿قَالُوا الْحَقَّ ﴾ وعند النفع لم يقل إنهم يقولون ذلك وذلك لأن لهم حالة يعترفون بأن كاشف الضر هو الله حيث يقعون في الضر كما قال تعالى :﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ (الروم : ٣٣) وأما عند الراحة فلا تنبه لهم لذلك فلذلك قال :﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أي هم في حالة الراحة غافلون عن الله.
ثم قال تعالى :﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا إرشاد من الله لرسوله إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها وذلك لأن أحد المتناظرين إذا قال للآخر هذا الذي تقوله خطأ وأنت فيه مخطىء يغضبه وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض، وأما إذا قال له بأن أحدنا لا يشك في أنه مخطىء والتمادي في الباطل قبيح والرجوع إلى الحق أحسن الأخلاق فنجتهد ونبصر أينا على الخطأ ليحترز فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر ويترك التعصب وذلك لا يوجب نقصاً في المنزلة لأنه أوهم بأنه في قوله شاك ويدل عليه قول الله تعالى لنبيه :﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ﴾ مع أنه لا يشك في أنه هو الهادي وهو المهتدي وهم الضالون والمضلون.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٦
المسألة الثانية : في قوله :﴿لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ ذكر في الهدى كلمة على وفي الضلال كلمة في لأن المهتدي كأنه مرتفع متطلع فذكره بكلمة التعلي، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكره بكلمة في.
المسألة الثالثة : وصف الضلال بالمبين ولم يصف الهدى لأن الهدي هو الصراط المستقيم الموصل إلى الحق والضلال خلافه لكن المستقيم واحد وما هو غيره كله ضلال وبعضه بين من بعض، فميز البعض عن البعض بالوصف.
المسألة الرابعة : قدم الهدى على الضلال لأنه كان وصف المؤمنين المذكورين بقوله :﴿أَنَا ﴾ وهو مقدم في الذكر.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٦
٢٠٦
ثم قال تعالى :﴿قُل لا تُسْـاَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلا نُسْـاَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم :﴿وَلا نُسْـاَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم وقوله :﴿لا تُسْـاَلُونَ﴾ ﴿وَلا نُسْـاَلُ﴾ زيادة حث على النظر وذلك لأن كل أحد إذا كان مؤاخذاً بجرمه فإذا احترز نجا، ولو كان البريء يؤاخذ بالجرم لما كفى النظر.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٦
٢٠٦
ثم قال تعالى :﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ أكد ما يوجب النظر والتفكر، فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب، فكيف إذا كان يوم عرض وحساب وثواب وعذاب وقوله :﴿يَفْتَحِ﴾ قيل معناه يحكم، ويمكن أن يقال بأن الفتح ههنا مجاز وذلك لأن الباب المغلق والمنفذ المسدود يقال فيه فتحه على طريق الحقيقة. ثم إن الأمر إذا كان فيه انغلاف وعدم وصول إليه فإذا بينه أحد يكون قد فتحه وقوله :﴿وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا مثل حكم من يحكم بما يتفق له بمجرد هواه.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٦
٢٠٦


الصفحة التالية
Icon