المسألة الثانية : قوله :﴿نَفْعًا﴾ مفيد للحسرة، وأما الضر فما الفائدة فيه مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك ؟
فنقول لما كانت العبادة تقع لدفع ضر المعبود كما يعبد الجبار ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢١٤
المسألة الثالثة : قال : ههنا ﴿عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ وقال في السجدة :﴿عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِه ﴾ جعل المكذب هنالك العذاب وجعل المكذب ههنا النار وهم كانوا يكذبون بالكل، والفائدة فيها أن هناك لم يكن أول ما رأوا النار بل كانوا هم فيها من زمان بدليل قوله تعالى :﴿كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ﴾ (السجدة : ٢٠) أي العذاب المؤبد الذي أنكرتموه بقولكم :﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ﴾ (البقرة : ٨٠) أي قلتم إن العذاب إن وقع فلا يدوم فذوقوا الدائم، وههنا أول ما رأوا النار لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فقيل لهم : هذه ﴿النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢١٤
٢١٥
إظهاراً لفساد اعتقادهم واشتداد عنادهم حيث تبين أن أعلى من يعبدونه وهم الملائكة لا يتأهل للعبادة لذواتهم كما قالوا :﴿سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا﴾ (سبأ : ٤١) أي لا أهلية لنا إلا لعبادتك من دونهم أي لا أهلية لنا لأن نكون معبودين لهم ولا لنفع أو ضر كما قال تعالى :﴿فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا﴾ (سبأ : ٤٢) ثم مع هذا كله إذا قال لهم النبي عليه السلام كلاماً من التوحيد وتلا عليهم آيات الله الدالة عليه، فإن لله في كل شيء آيات دالة على وحدانيته أنكروها وقالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم يعني يعارضون البرهان بالتقليد ﴿وَقَالُوا مَا هَـاذَآ إِلا إِفْكٌ مُّفْتَرًى ﴾ وهو يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون المراد أن القول بالوحدانية ﴿إِفْكٌ مُّفْتَرًى ﴾ ويدل عليه هو أن الموحد كان يقول في حق المشرك إنه يأفك كما قال تعالى في حقهم :﴿أَاـاِفْكًا ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ (الصافات : ٨٦) وكما قالوا هم للرسول :﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ﴾ (الأحقاف : ٢٢) وثانيها : أن يكون المراد ﴿مَا هَـاذَآ إِلا إِفْكٌ﴾ (الفرقان : ٤) أي القرآن إفك وعلى الأول يكون قوله :﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (الأحقاف : ٧) إشارة إلى القرآن وعلى الثاني يكون إشارة إلى ما أتى به من المعجزات وعلى الوجهين فقوله تعالى :﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بدلاً عن أن يقول وقالوا للحق هو أن إنكار التوحيد كان مختصاً بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمعجزات (فقد) كان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب (فقال) تعالى :﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ﴾ على وجه العموم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢١٥
٢١٥
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير تأكيد لبيان تقليدهم يعني يقولون عندما تتلى عليهم الآيات البينات هذا رجل كاذب وقولهم :﴿إِفْكٌ مُّفْتَرًى ﴾ من غير برهان ولا كتاب أنزل عليهم ولا رسول أرسل إليهم، فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية، ولم يأتوا بها أو بالتقلبات وما عندهم كتاب ولا رسول غيرك، والنقل المعتبر آيات من كتاب الله أو خبر رسول الله، ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كذبوا مثل عاد وثمود، وقوله تعالى :﴿وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ﴾ قال المفسرون معناه : وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر، ثم إن الله أخذهم وما نفعتهم قوتهم، فكيف حال هؤلاء الضعفاء، وعندي (أنه) يحتمل ذلك وجهاً آخر وهو أن يقال المراد :﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ﴾ أي الذين من قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البيان والبرهان، وذلك لأن كتاب محمد عليه السلام أكمل من سائر الكتب وأوضح، ومحمد عليه السلام أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفى، وبيانه أشفى، ثم إن المتقدمين لما كذبوا بما جاءهم من الكتب وبمن أتاهم من الرسل أنكر عليهم وكيف لا ينكر عليهم، وقد كذبوا بما جاءهم من الكتب وبمن أتاهم من الرسل أنكر عليهم وكيف لا ينكر عليهم، وقد كذبوا بأفصح الرسل، وأوضح السبل، يؤيد ما ذكرنا من المعنى قوله تعالى :﴿وَمَآ ءَاتَيْنَـاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ﴾ يعني غير القرآن ما آتيناهم كتاباً وما أرسنا إليهم قبلك من نذير، فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب، فحمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى.


الصفحة التالية
Icon