المسألة الخامسة : ما وجه ترجيح الذكر على العمل على الوجه الثاني حيث يصعد الكلم / بنفسه ويرفع العمل بغير/ فنقول الكلام شريف، فإن امتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق ولهذا قال تعالى :﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ﴾ أي بالنفس الناقطة والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره، والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة إن كان عن صدق أمن عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان ظاهراً أمن في نفسه ودمه وأهله وحرمه في الدنيا ولا كذلك العمل بالجوارح، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾، ووجه آخر : القلب هو الأصل وقد تقدم ما يدل عليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" وما في القلب لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يتبين صدقه إلا بالفعل، ألا ترى أن الإنسان لا يتكلم بكلمة إلا عن قلب، وأما الفعل قد يكون لا عن قلب كالعبث باللحية ولأن النائم لا يخلو عن فعل من حركة وتقلب وهو في أكثر الأمر لا يتكلم في نومه إلا نادراً، لما ذكرنا إن الكلام بالقلب ولا كذلك العمل، فالقول أشرف.
المسألة السادسة : قال الزمخشري المكر لا يتعدى فبم انتصاب السيئات ؟
وقال بأن معناه الذين يمكرون المكرات السيئات فهو صف مصدر محذوف، ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فعداه تعديته كما قال تعالى :﴿الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ وفي قوله :﴿الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ يحتمل ما ذكرناه أن يكون السيئات وصفاً لمصدر تقديره الذين يعملون العملات السيئات، وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله :﴿وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه ﴾ إشارة إلى بقائه وارتقائه ﴿وَمَكْرُ أولئك ﴾ أي العمل السيء ﴿هُوَ يَبُورُ﴾ إشارة إلى فنائه.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٢٨
٢٢٩
ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه ا وَمَا﴾.
قد ذكرنا مراراً أن الدلائل مع كثرتها وعدم دخولها في عدد محصور منحصرة في قسمين دلائل الآفاق ودلائل الأنفس، كما قال تعالى :﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ﴾ فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وما يرسل منها من الملائكة والأرض وما يرسل فيها من الرياع شرع / في دلائل الأنفس، وقد ذكرنا تفسيره مراراً وذكرنا ما قيل من أن قوله :﴿مِّن تُرَابٍ﴾ إشارة إلى خلق آدم ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ إشارة إلى خلق أولاده، وبينا أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل ﴿خَلَقَكُم﴾ خطاب مع الناس وهم أولاد آدم كلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء، والغذاء بالآخرة ينتهي إلى الماء والتراب، فهو من تراب صار نطفة.
وقوله :﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ﴾ إشارة إلى كمال العمل، فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد، كيف والأم الحاملة لا تعلم منه شيئاً، فلما ذكر بقوله :﴿خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ﴾ كمال قدرته بين بقوله :﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه ﴾ كمال علمه ثم بين نفوذ إرادته بقوله :﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِه إِلا فِى كِتَـابٍ ﴾ فبين أنه هو القادر العالم المريد والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة، فكيف يستحق شيء منها العبادة، وقوله :﴿إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ أي الخلق من التراب ويحتمل أن يكون المراد التعمير والنقصان على الله يسير، ويحتمل أن يكون المراد أن العلم بحا تحمله الأثنى يسير والكل على الله يسير والأول أشبه فإن اليسير استعماله في الفعل أليق.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٢٩
٢٢٩
ثم قال تعالى :﴿وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَـاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآاـاِغٌ شَرَابُه وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌا وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾.


الصفحة التالية
Icon