المسألة الثالثة : زاد في ذلك بقوله :﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ا ﴾ أي المدعو لو كان ذا قربى لا يحمله وفي الأول كان يمكن أن يقال لا يحمله لعدم تعلقه به كالعدو الذي يرى عدوه تحت ثقل، أو الأجنبي الذي يرى أجنبياً تحت حمل لا يحمل عنه فقال :﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ا ﴾ أي يحصل جميع المعاني الداعية إلى الحمل من كون النفس وازرة قوية تحتمل وكون الأخرى مثقلة لا يقال كونها قوية قادرة ليس عليها حمل وكونه سائلة داعية فإن السؤال مظنة الرحمة، لو كان المسؤول قريباً فإذن لا يكون التخلف إلا لمانع وهو كون كل نفس تحت حمل ثقيل.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ ﴾ إشارة إلى أن لا إرشاد فوق ما أتيت به، ولم يفدهم، فلا تنذر إنذاراً مفيداً إلا الذين تمتلىء قلوبهم خشية وتتحلى ظواهرهم بالعبادة كقوله :﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ إشارة إلى عمل القلب ﴿وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ إشارة إلى عمل الظواهر فقوله :﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ ﴾ في ذلك المعنى، ثم لما بين ﴿أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ بين أن الحسنة تنفع المحسنين.
فقال :﴿وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِه ﴾ أي فتزكيته لنفسه.
ثم قال تعالى :﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ أي المتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلاً فالمصير إلى الله يظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء، والوازر إن لم تظهر تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصير إلى الله.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٣٤
٢٣٤
ثم قال تعالى :﴿وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَـاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ وَلا الامْوَاتُ ﴾.
لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر، وهدى الله المؤمن من ضرب لهم مثلاً بالبصير والأعمى، فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعمى، وفي تفسير الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في تكثير الأمثلة ههنا حيث ذكر الأعمى والبصير، والظلمة والنور، والظل والحرور، والأحياء والأموات ؟
فنقول الأول مثل المؤمن والكافر فالمؤمن بصير والكافر أعمى، ثم إن البصير وإن كان حديد البصر ولكن لا يبصر شيئاً إن لم يكن في ضوء فذكر للإيمان والكفر مثلاً، وقال الإيمان نور والمؤمن بصير والبصير لا يخفى عليه النور، والكفر ظلمة والكافر أعمى فله صاد فوق صاد، ثم ذكر لمآلهما ومرجعهما مثلاً وهو الظل والحرور، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة والكافر بكفره في حر وتعب، ثم قال تعالى :﴿وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ وَلا الامْوَاتُ ﴾ مثلاً آخر في حق المؤمن والكافر كأنه قال تعالى حال المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير، فإن الأعمى يشارك البصير في إدراك ما. والكافر غير مدرك إدراكاً نافعاً فهو كالميت ويدل على ما ذكرنا أنه تعالى أعاد الفعل حيث قال أولاً :﴿وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ وعطف الظلمات والنور والظل والحرور، ثم أعاد الفعل، وقال :﴿وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ وَلا الامْوَاتُ ﴾ كأنه جعل هذا مقابلاً لذلك.
المسألة الثانية : كرر كلمة النفي بين الظلمات والنور والظل والحرور والأحياء الأموات، ولم يكرر بين الأعمى والبصير، وذلك لأن التكرير للتأكيد والمنافاة بين الظلمة والنور والظل والحرور مضادة، فالظلمة تنافي النور وتضاده والعمى والبصر كذلك، أما الأعمى والبصير ليس كذلك بل الشخص الواحد قد يكون بصيراً وهو بعينه يصير أعمى، فالأعمى والبصير لا منافاة بينهما إلا من حيث الوصف، والظل والحرور والمنافاة بينهما ذاتية لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد فلما كانت المنافاة هناك أتم، أكد بالتكرار، وأما الأحياء والأموات، وإن كانوا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد يكون حياً محلاً للحياة فيصير ميتاً محلاً للموت ولكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير، كما بينا أن الأعمى والبصير يشتركان في إدراك أشياء، ولا كذلك الحي والميت، كيف والميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٣٤


الصفحة التالية
Icon