ثم قال تعالى :﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ تقريراً لأمرين أحدهما : لتسلية قلبه حيث يعلم أن غيره كان مثله محتملاً لتأذي القوم وثانيهما : إلزام القوم قبوله فإنه ليس بدعاً من الرسل وإنما هو مثل غيره يدعى ما ادعاه الرسل ويقرره.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٣٤
٢٣٤
وقوله تعالى :﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَـابِ الْمُنِيرِ﴾.
يعني أنت جئتهم بالبينة والكتاب فكذبوك وآذوك وغيرك أيضاً أتاهم بمثل ذلك وفعلوا بهم ما فعلوا بك وصبروا على ما كذبوا فكذلك نلزمهم بأن من تقدم من الرسل لم يعلم كونهم رسلاً إلا بالمعجزات البينات وقد آتيناها محمداً صلى الله عليه وسلّم ﴿وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَـابِ الْمُنِيرِ﴾ / والكل آتيناها محمداً، فهو رسول مثل الرسل يلزمهم قبوله كما لزم قبول موسى وعيسى عليهم السلام أجمعين، وهذا يكون تقريراً مع أهل الكتاب، واعلم أنه تعالى ذكر أموراً ثلاثة أولها البينات، وذلك لأن كل رسول فلا بد له من معجزة وهي أدنى الدرجات، ثم قد ينزل عليه كتاب يكون فيه مواعظ وتنبيهات وإن لم يكن فيه نسخ وأحكام مشروعة شرعاً ناسخاً، ومن ينزل عليه مثله أعلى مرتبة ممن لا ينزل عليه ذلك وقد تنسخ شريعته الشرائع وينزل عليه كتاب فيه أحكام على وفق الحكمة الإلهية، ومن يكون كذلك فهو من أولي العزم فقال الرسل تبين رسالتهم بالبينات وإن كانوا أعلى مرتبة فبالزبر، وإن كانوا أعلى فبالكتاب والنبي آتيناه الكل فهو رسول أشرف من الكل لكون كتابه أتم وأكمل من كل كتاب.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٣٤
٢٣٦
ثم قال تعالى :﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾.
أي من كذب بالكتاب المنزل من قبل وبالرسول المرسل أخذه الله تعالى فكذلك من يكذب بالنبي عليه السلام، وقوله :﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ سؤال للتقرير فإنهم علموا شدة إنكار الله عليهم وإتيانه بالأمر المنكر من الاستئصال.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٣٦
٢٣٧
ثم قال تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِه ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ﴾.
وهذا استدلال بدليل آخر على وحدانية الله وقدرته وفي تفسيرها مسائل :
المسألة الأولى : ذكر هذا الدليل على طريقة الاستخبار، وقال :﴿أَلَمْ تَرَ﴾ وذكر الدليل المتقدم على طريقة الأخبار وقال :﴿وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ﴾ وفيه وجهان الأول : أن انزال الماء أقرب إلى النفع والمنفعة فيه أظهر فإنه لا يخفى على أحد في الرؤية أن الماء منه حياة الأرض فعظم دلالته بالاستفهام لأن الاستفهام الذي للتقرير لا يقال إلا في الشيء الظاهر جداً كما أن من أبصر الهلال وهو خفي جداً، فقال له غيره أين هو، فإنه يقول له في الموضع الفلاني، فإن لم يره، يقول له الحق معك إنه خفي وأنت معذور، وإذا كان بارزاً يقول له أما تراه هذا هو ظاهراً والثاني : وهو أنه ذكره بعدما قرر المسألة بدليل آخر وظهر بما تقدم للمدعو بصارة بوجوه الدلالات، فقال له أنت صرت بصيراً بما ذكرناه ولم يبق لك عذر، ألا ترى هذه الآية.
المسألة الثانية : المخاطب من هو يحتمل وجهين أحدهما : النبي صلى الله عليه وسلّم وفيه حكمة وهي أن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تنفعهم قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم، كما أن السيد إذا نصح بعض العبيد ومنعهم من الفساد ولا ينفعهم الإرشاد، يقول لغيره اسمع ولا تكن مثل هذا / ويكرر معه ما ذكره مع الأول ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يستأهل للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة والآخر : أن لا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول، بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاماً آخر فيترك التفكر فيما كان فيه من النصيحة.
المسألة الثالثة : هذا استدلال على قدرة الله واختياره حيث أخرج من الماء الواحد ممرات مختلفة وفيه لطائف الأولى : قال أنزل وقال أخرجنا. وقد ذكرنا فائدته ونعيدها فنقول : قال الله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ﴾ فإن كان جاهلاً يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له، فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله، فلما كان ذلك أظهر أسنده إلى المتكلم ووجه آخر : هو أن الله تعالى لما قال :﴿أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ﴾ علم الله بدليل، وقرب المتفكر فيه إلى الله تعالى فصار من الحاضرين، فقال له أخرجنا لقربه ووجه ثالث : الإخراج أتم نعمة من الإنزال، لأن الإنزال لفائدة الإخراج فأسند الأتم إلى نفسه بصيغة المتكلم وما دونه بصيغة الغائب.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٣٧
٢٣٧


الصفحة التالية
Icon