وقوله :﴿وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ﴾ إشارة إلى العمل المالي، وفي الآيتين حكمة بالغة، فقوله : إنما يغشى الله إشارة إلى عمل القلب، وقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ﴾ إشارة إلى عمل اللسان. وقوله :﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ إشارة إلى عمل الجوارح، ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقة بجانب تعظيم الله والشفقة على خلقه، لأنا بينا أن من يعظم ملكاً إذا رأى عبداً من عباده في حاجة يلزمه قضاء حاجته وإن تهاون فيه يخل بالتعظيم، وإلى هذا أشار بقوله : عبدي مرضت فما عدتني، فيقول العبد : كيف تمرض وأنت رب العالمين، فيقول الله مرض عبدي فلان وما زرته ولو زرته لوجدتني عنده، يعني التعظيم متعلق بالشفقة فحيث لا شفقة على خلق الله لا تعظيم لجانب الله.
وقوله تعالى :﴿سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ حث على الإنفاق كيفما يتهيأ، فإن تهيأ سراً فذاك ونعم وإلا فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه إنه مراء عين الرياء ويمكن أن يكون المراد بقوله :﴿سِرًّا﴾ أي صدقة ﴿وَعَلانِيَةً﴾ أي زكاة، فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض وهو مستحب.
وقوله تعالى :﴿يَرْجُونَ تِجَـارَةً لَّن تَبُورَ﴾ إشارة إلى الإخلاص، أي ينفقون لا ليقال إنه كريم ولا لشيء من الأشياء غير وجه الله، فإن غير الله بائر والتاجر فيه تجارته بائرة.[
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٣٨
٢٤٠
وقوله تعالى :﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي ما يتوقعونه ولو كان أمراً بالغ الغاية ﴿وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه ﴾ أي يعطيهم ما لم يخطر ببالهم عند العمل، ويحتمل أن يكون يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة ﴿إِنَّه غَفُورٌ﴾ عند إعطاء الأجور ﴿شَكُورٌ﴾ عند إعطاء الزيادة.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٤٠
٢٤١
ثم قال تعالى :﴿وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ هُوَ الْحَقُّ﴾.
لما بين الأصول الأول وهو وجود الله الواحد بأنواع الدلائل من قوله :﴿وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ﴾ / الرياح، وقوله :﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم﴾ وقوله :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ﴾ ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال :﴿وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ هُوَ الْحَقُّ﴾ وأيضاً كأنه قد ذكر أن الذين يتلون كتاب الله يوفيهم الله فقال :﴿وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ هُوَ الْحَقُّ﴾ تقريراً لما بين من الأجر والثواب في تلاوة كتاب الله فإنه حق وصدق فتاليه محق ومحقق وفي تفسيرها مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿مِنَ الْكِتَـابِ﴾ يحتمل أن يكون لابتداء الغاية كما يقال أرسل إلى كتاب من الأمير أو الوالي وعلى هذا فالكتاب بمكن أن يكون المراد منه اللوح المحفوظ يعني الذي أوحينا من اللوح المحفوظ إليك حق، ويمكن أن يكون المراد هو القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليك من القرآن ويحتمل أن يكون للبيان كما يقال أرسل إلى فلان من الثياب والقماش جملة.
المسألة الثانية : قوله :﴿هُوَ الْحَقُّ﴾ آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين ﴿أَحَدُهُمَآ﴾ أن تعريف الخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكن نكرة، لأن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا معرفة للسامع به لأمر يعرفه السامع كقولنا زيد قام فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً بزيد ولا يعلم قيامه فيخبر به، فإذا كان الخبر أيضاً معلوماً فيكون الأخبار للتنبيه فيعرفان باللام كقولنا زيد العالم في هذه المدينة إذا كان علمه مشهوراً.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٤١


الصفحة التالية
Icon