المسألة الأولى : الكفار أنكروا كون محمد مرسلاً والمطالب تثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة في الإقسام ؟
نقول فيه وجوه الأول : هو أن العرب كانوا يتوقون الأيمان الفاجرة وكانوا يقولون إن اليمين الفاجرة توجب خراب العالم وصحح النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك بقوله :"اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع" ثم إنهم كانوا يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلّم يصيبه من آلهتهم عذاب وهي الكواكب فكان النبي صلى الله عليه وسلّم يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه وبأشياء مختلفة، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرفع شأناً وأمنع مكاناً فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب الثاني : هو أن المتناظرين إذا وقع بينهما كلام وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المطلوب إنك قررت هذا بقوة جدالك وأنت خبير في نفسك بضعف مقالك وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه صورة دليل وعجزت أنا عن القدح فيه، وهذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر، لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول فلا يجد أمراً إلا اليمين، فيقول والله إني لست مكابراً وإن الأمر على ما ذكرت ولو علمت خلافه لرجعت إليه فههنا يتعين اليمين، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلّم لما أقام البراهين وقالت الكفرة :﴿مَا هَـاذَآ إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ﴾ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ تعين التمسك بالأيمان لعدم فائدة الدليل الثالث : هو أن هذا ليس مجرد الحلف، وإنما هو دليل خرج في صورة اليمين لأن القرآن معجزة ودليل كونه مرسلاً هو المعجزة والقرآن كذلك فإن قيل فلم لم يذكر في صورة الدليل ؟
وما الحكمة في ذكر الدليل في صورة اليمين ؟
قلنا الدليل أن ذكره في صورة اليمين قد لا يقبل عليه سامع فلا يقبله فؤاده فإذا ابتدىء به على صورة اليمين واليمين لا يقع لا سيما من العظيم الأعلى أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه فلصورة اليمين تشرئب إليه الأجسام، ولكونه دليلاً شافياً يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وينفع في القلب.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٥٣
المسألة الثانية : كون القرآن حكيماً عندهم لكون محمد رسولاً، فلهم أن يقولوا إن هذا ليس بقسم، نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن كون القرآن معجزة بين إن أنكروه قيل لهم فأتوا بسورة من مثله والثاني : أن العاقل لا يثق بيمين غيره إلا إذا حلف بما يعتقد عظمته، فالكافر إن حلف بمحمد لا نصدقه كما نصدقه لو حلف بالصليب والصنم، ولو حلف بديننا الحق لا يوثق بمثل ما يوثق به لو حلف بدينه الباطل وكان من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يعظمون القرآن فحلفه به هو الذي يوجب ثقتهم به.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٥٣
٢٥٣
وقوله تعالى :﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ خبر بعد خبر أي إنك على صراط مستقيم والمستقيم / أقرب الطرق الموصلة إلى المقصد والدين كذلك فإنه توجه إلى الله تعالى وتولى عن غيره والمقصد هو الله والمتوجه إلى المقصد أقرب إليه من المولى عنه والمتحرف منه ولا يذهب فهم أحد إلى أن قوله إنك منهم على صراط مستقيم مميز له عن غيره كما يقال إن محمداً من الناس مجتبى لأن جميع المرسلين على صراط مستقيم، وإنما المقصود بيان كون النبي صلى الله عليه وسلّم على الصراط المستقيم الذي يكون عليه المرسلون وقوله :﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ فيه معنى لطيف يعلم منه فساد قول المباحية الذين يقولون المكلف يصير واصلاً إلى الحق فلا يبقى عليه تكليف وذلك من حيث إن الله بين أن المرسلين ما داموا في الدنيا فهم سالكون سائحون مهتدون منتهجون إلى السبيل المستقيم فكيف ذلك الجاهل العاجز.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٥٣
٢٥٤


الصفحة التالية
Icon