ثم إنه تعالى بين أن الإنذار لا ينفعهم مع ما فعل الله بهم من الغل والسد والإغشاء والإعماء. بقوله تعالى :﴿وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ أي الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى الإيمان منهم إذ لا وجود له منهم على التقديرين، فإن قيل إذا كان الإنذار وعدمه سواء فلماذا الإنذار ؟
نقول قد أجبنا في غير هذا الموضع أنه تعالى قال :﴿سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ﴾ وما قال سواء / عليك فالإنذار بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ليس كعدم الإنذار لأن أحدهما مخرج له عن العهدة وسبب في زيادة سيادته عاجلاً وسعادته آجلاً، وأما بالنسبة إليهم على السواء فإنذار النبي صلى الله عليه وسلّم ليخرج عما عليه وينال ثواب الإنذار وإن لم ينتفعوا به لما كتب عليهم من البوار في دار القرار.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٥٩
٢٦٠
ثم قال تعالى :﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِا فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ والترتيب ظاهر وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : قال من قبل :﴿لِتُنذِرَ﴾ وذلك يقتضي الإنذار العام على ما بينا وقال :﴿إِنَّمَا تُنذِرُ﴾ وهو يقضي التخصيص فكيف الجمع بينهما ؟
نقول من وجوه : الأول : هو أن قوله :﴿لِتُنذِرَ﴾ أي كيفما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن وقوله :﴿إِنَّمَا تُنذِرُ﴾ أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة إلى من يتبع الذكر ويخشى الثاني : هو أن الله تعالى لما قال إن الإرسال والإنزال، وذكر أن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه : ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه فأنذر على سبيل العموم وإنما تنذر بذلك الإنذار العام من يتبع الذكر كأنه يقول : يا محمد إنك بإنذارك تهدي ولا تدري من تهدي فأنذر الأسود والأحمر ومقصودك من يتبع إنذارك وينتفع بذكراك الثالث : هو أن نقول قوله :﴿لِتُنذِرَ﴾ أي أولاً فإذا أنذرت وبالغت وبلغت واستهزأ البعض وتولى واستكبر وولى، فأعرض بعد ذلك فإنما تنذر الذين اتبعوك الرابع : وهو قريب من الثالث إنك تنذر الكل بالأصول، وإنما تنذر بالفروع من ترك الصلاة والزكاة من اتبع الذكر وآمن.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٦٠
المسألة الثانية : قوله :﴿مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ يحتمل وجوهاً الأول : وهو المشهور من اتبع القرآن الثاني : من اتبع ما في القرآن من الآيات ويدل عليه قوله تعالى :﴿ا وَالْقُرْءَانِ ذِى﴾ فما جعل القرآن نفس الذكر الثالث : من اتبع البرهان فإنه ذكر يكمل الفطرة وعلى كل وجه فمعناه : إنما تنذر العلماء الذين يخشون وهو كقوله تعالى :﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾ وكقوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ فقوله :﴿اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ أي آمن، وقوله :﴿وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ﴾ أي عمل صالحاً وهذا الوجه يتأيد بقوله :﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ لأنا ذكرنا مراراً أن الغفران جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور والأجر الكريم جزاء العمل كما قال تعالى :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا أولئك لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ وتفسير الذكر بالقرآن يتأيد بتعريف الذكر بالألف واللام، وقد تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى :﴿وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ﴾ وقوله :﴿وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ﴾ فيه لطيفة وهي أن الرحمة تورث الاتكال والرجاء فقال مع أنه رحمن ورحيم فالعاقل / لا ينبغي أن يترك الخشية فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة وتكملة اللطيفة : هي أن من أسماء الله اسمين يختصان به هما الله والرحمن كما قال تعالى :﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـانَ ﴾ حتى قال بعض الأئمة : هما علمان إذا عرفت هذا فالله اسم ينبىء عن الهيبة والرحمن ينبىء عن العاطفية فقال في موضع يرجو الله، وقال ههنا :﴿وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ﴾ يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا عنه رجاءكم ومع كونه ذا رحمة لا تأمنوه، وقوله :﴿بِالْغَيْبِ ﴾ يعني بالدليل وإن لم ينته إلى درجة المرئي المشاهد فإن عند الانتهاء إلى تلك الدرجة لا يبقى للخشية فائدة، والمشهور أن المراد بالغيب ما غاب عنا وهو أحوال القيامة، وقيل إن الوحدانية تدخل فيه، وقوله :﴿فَبَشِّرْهُ﴾ فيه إشارة إلى الأمر الثاني من أمري الرسالة فإن النبي صلى الله عليه وسلّم بشير ونذير وقد ذكر أنه أرسل لينذر وذكر أن الإنذار النافع عند اتباع الذكر/ فقال بشر : كما أنذرت ونفعت، وقوله :﴿بِمَغْفِرَةٍ﴾ على التنكير أي بمغفرة واسعة تستر من جميع الجوانب حتى لا يرى عليه أثر من آثار النفس ويظهر عليه أنوار الروح الزكية ﴿وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ أي ذي كرم، وقد ذكرنا ما في الكريم في قوله :﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ وفي قوله :﴿رِزْقًا كَرِيمًا﴾.


الصفحة التالية
Icon