ثم بين الله ما جرى منهم وعليهم مثل ما جرى من محمد صلى الله عليه وسلّم وعليه فقالوا :﴿إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ﴾ (يس : ١٤) كما قال :﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (يس : ٣) وبين ما قال القوم بقوله :﴿قَالُوا مَآ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَىْءٍ﴾ جعلوا كونهم بشراً مثلهم دليلاً على عدم الإرسال، وهذا عام من المشركين قالوا في حق محمد :﴿عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن ﴾ (ص : ٨) وإنما ظنوه دليلاً بناءً على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار، وإنما قالوا فيه أنه موجب بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن الرجحان، والله تعالى رد عليهم قولهم بقوله :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ (الأنعام : ١٢٤) وبقوله :﴿اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ﴾ (الشورى : ١٣) إلى غير ذلك، وقوله :﴿وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَىْءٍ﴾ يحتمل وجه أحدهما : أن يكون متمماً لما ذكروه فيكون الكل شبهة واحدة، ووجهه هو أنهم قالوا أنتم بشر فما نزلتم من عند الله وما أنزل الله إليكم أحداً، فكيف صرتم رسلاً لله ؟
ثانيهما : أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة ووجه هو أنهم لما قالوا أنتم بشر مثلنا فلا يجوز رجحانكم علينا ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المرسلين، ثم قالوا شبهة أخرى من جهة المرسل، وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئاً في هذا العالم، فإنه تصرفه في العالم العلوي وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم، فالله تعالى لم ينزل شيئاً من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم، وقوله :﴿الرَّحْمَـانَ﴾ إشارة إلى الرد عليهم، لأن الله لما كان رحمن الدنيا والإرسال رحمة، فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن، فقال إنهم قالوا : ما أنزل الرحمن شيئاً، وكيف لا ينزل الرحمن مع كونه رحمن شيئاً، هو الرحمة الكاملة.
ثم قال تعالى :﴿إِنْ أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ﴾ أي ما أنتم إلا كاذبين.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٦١
٢٦٢
إشارة إلى أنه بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا، بل أعادوا ذلك لهم وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين وقالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وأكدوه باللام، لأن يعلم الله يجري مجرى القسم، لأن من يقول يعلم الله فيما لا يكون قد نسب الله إلى الجهل وو سبب العقاب، كما أن الحنث سببه، وفي قوله :﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ﴾ إشارة إلى الرد عليهم حيث قالوا أنتم بشر، وذلك لأن الله إذا كان يعلم أنهم لمرسلون، يكون كقوله تعالى :/ ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ (الأنعام : ١٢٤) يعني هو عالم بالأمور وقادر، فاختارنا بعلمه لرسالته. ثم قال :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٦٢
٢٦٢
تسلية لأنفسهم، أي نحن خرجنا عن عهدة ما علينا وحثاً على النظر، فإنهم لما قولوا :﴿وَمَا عَلَيْنَآ إِلا الْبَلَـاغُ﴾ كان ذلك يوجب تفكرهم في أمرهم حيث لم يطلبوا منهم أجراً ولا قصدوا رياسة، وإنما كان شغلهم التبليغ والذكر، وذلك مما يحمل العاقل على النظر و﴿الْمُبِينُ﴾ يحتمل أموراً أحدها : البلاغ المبين للحق عن الباطل، أي الفارق بالمعجزة والبرهان وثانيها : البلاغ المظهر لما أرسلنا للكل، أي لا يكفي أن نبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين وثالثها : البلاغ المظهر للحق بكل ما يمكن، فإذا تم ذلك ولم يقبلوا يحق هنالك الهلاك.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٦٢
٢٦٣
ثم كان جوابهم بعد هذا أنهم قالوا إنا تطيرنا بكم وذلك أنه لما ظهر من الرسل المبالغة في البلاغ ظهر منهم الغلو في التكذيب، فلما قال المرسلون :﴿إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ﴾ (يس : ١٤) قالوا :﴿إِنْ أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ﴾ (يس : ١٥) ولما أكد الرسل قولهم باليمين حيث قالوا :﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ﴾ (يس : ١٦) أكدوا قولهم بالتطير بهم فكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين، وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب، حالفين مقسمين عليه، و"اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع" فتشاءمنا بكم ثانياً، وفي الأول كما تركتم ففي الثاني لا نترككم لكون الشؤم مدركنا بسببكم فقالوا :﴿لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وقوله لنرجمنكم يحتمل وجهين أحدهما : لنشتمنكم منا لرجم بالقول وعلى هذا فقوله :﴿وَلَيَمَسَّنَّكُم﴾ ترق كأنهم قالوا ولا يكتفي بالشتم، بل يؤدي ذلك إلى الضرب والإيلام الحسي وثانيهما : أن يكون المراد الرجم بالحجارة، وحينئذٍ فقوله :﴿وَلَيَمَسَّنَّكُم﴾ بيان للرجم، يعني ولا يكون الرجم رجماً قليلاً نرجمكم بحجر وحجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو عذاب أليم، ويكون المراد لنرجمنكم وليمسنكم بسبب الرجم عذاب منا أليم، وقد ذكرنا في الأليم أنه بمعنى لمؤلم، والفعيل معنى مفعل قليل، ويحتمل أني قال هو من باب قوله :﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ (الحاقة : ٢١) أي ذات رضا، فالعذاب الأليم هو ذو ألم، وحينئذٍ يكون فعيلاً بمعنى فاعل وهو كثير.


الصفحة التالية
Icon