المسألة الثانية : قوله :﴿يَسْعَى ﴾ تبصرة للمؤمنين وهداية لهم، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، وقد ذكرنا فائدة قوله :﴿مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ﴾ وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة والمدينة هي أنطاكية، وهي كانت كبيرة شاسعة وهي الآن دون ذلك ومع هذا فهي كبيرة وقوله تعالى :﴿قَالَ يَـاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ فيه معان لطيفة الأول : في قوله :﴿عَلَيْهِ قَوْمٌ﴾ فإنه ينبىء عن إشفاق عليهم وشفقة فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله :﴿عَلَيْهِ قَوْمٌ﴾ يفيد أنه لا يريد بهم إلا خيراً، وهذا مثل قول مؤمن آل فرعون ﴿ءَامَنَ يَـاقَوْمِ اتَّبِعُونِ﴾ (غافر : ٣٨) فإن قيل قال هذا الرجل ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ وقال ذلك ﴿اتَّبِعُونِ﴾ فما الفرق ؟
نقول هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم وما رأوا سيرته، فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم واتبع موسى ونصحهم مراراً فقال اتبعوني في الإيمان بموسى وهارون عليهما السلام، واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته، ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول أنتم تعلمون اتباعي لهم الثاني : جمع بين إظهار النصحية وإظهار إيمانه فقوله :﴿اتَّبِعُوا ﴾ نصحية وقوله :﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ إظهار أنه آمن الثالث : قدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعياً في النصح، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله :﴿رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ يدل على كونه مريداً للنصح وما ذكر في حكايته أنه كان يقتل وهو يقول :"اللهم اهد قومي". ثم قال : تعالى :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٦٥
٢٦٧
وهذا في غاية الحسن وذلك من حيث إنه لما قال :﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة وطالبون للاستقامة، والطريق إذا حصل فيه دليل يدل يجب اتباعه، والامتناع من الاتباع لا يحسن إلا عند أحد أمرين، إما مغالاة الدليل في طلب الأجرة، وإما عند عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفته الطريق، لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق، فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين، أليسوا بمهتدين، فاتبعوهم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٦٧
٢٦٧
ثم قال تعالى :}وما لِيَ لا أعبد الذي فطرني} لماق ال : وما لِيَ لا أعبد الذي فطرني} لماق ال : لماق ال :﴿وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (يس : ٢١) بين ظهور اهتدائهم بأنهم يدعون من عبادة الجماد إلى عبادة الحي القويم، ومن عبادة ما لا ينفع إلى عبادة من منه كل نفع وفيه لطائف : الأولى قوله :﴿مَالِيَ﴾ أي مالي مانع من جانبي. إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه، فمن يمتنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جرم/ عبدته، وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى ولطيفة ثانية : وهي أنه لو قال مالكم لا تعبدون الذي فطركم، لم يكن في البيان مثل قوله : لأنه لما قال : وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو يبين عدم المانع، وأما لو قال :(مالكم) جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه، فإن قيل قال الله :﴿مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ (نوح : ١٣) نقول القائل هناك غير مدعو، وإنما هو داع وههنا الرجل مدعو إلى الإيمان فقال : ومالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك الثانية : قوله :﴿الَّذِى فَطَرَنِى﴾ إشارة إلى وجود المقتضى فإن قوله : إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى، فقوله :﴿عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى ﴾ ينبىء عن الاقتضاء، فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه، ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم شكر نعمته الثالثة : قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضى مع أن المستحسن نتقديم المقتضى حيث وجد المقتضى ولا مانع فيوجد لأن المقتضى لظهوره كان مستغنياً عن البيان رأساً فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان لوجود الحاجة إليه الرابعة : اختار من الآيات فطرة نفسه لأنه لما قال :﴿لِىَ لا أَعْبُدُ﴾ بإسناد العبادة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه، وبيان ذلك هو أن خالف عمرو يجب على زيد عبادته لأنه من خلق عمراً لا يكون إلا كامل القدرة شامل العلم واجب الوجود وهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجاباً.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٦٧


الصفحة التالية
Icon