ثم بين الله تعالى سبب الحسرة بقوله تعالى :﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِه ﴾ وهذا سبب الندامة وذلك لأن من جاءه ملك من بادية، وأعرفه نفسه، وطلب منه أمراً هيناً فكذبه ولم يجبه إلا ما دعاه، ثم وقف بين يديه وهو على سرير ملكه فعرفه أنه ذلك، يكون عنده من الندامة ما لا مزيد عليه، فكذلك الرسل هم ملوك وأعظم منهم بإعزاز الله إياهم وجعلهم نوابة كما قال :﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ (آل عمران : ٣١) وجاؤا وعرفوا أنفسهم ولم يكن لهم عظمة ظاهرة في الحس، ثم يوم القيامة أو عند ظهور البأس ظهرت عظمتهم عند الله لهم، وكان ما يدعون إليه أمراً هيناً نفعه عائد إليهم من عبادة الله وما كانوا يسألون عليه أجراً/ فعند ذلك تكون الندامة الشديدة، وكيف لا وهم يقتنعوا بالإعراض حتى آذوا واستهزأوا واستخفوا واستهانوا/ وقوله :﴿مَا يَأْتِيهِم﴾ الضمير يجوز أن يكون عائداً إلى قوم حبيب، أي ما يأتيهم من رسول من الرسل الثلاثة إلا كانوا به يستهزؤون على قولنا الحسرة عليهم، ويجوز أن يكون عائداً إلى الكفار المصرين.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٧١
٢٧٤
ثم إن الله تعالى لما بين حال الأولين قال للحاضرين :﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ﴾ أي الباقون لا يرون ما جرى على من تقدمهم، ويحتمل أن يقال : إن الذين قيل في حقهم :﴿عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ (يس : ٣٠) هم الذين قال في حقهم :﴿أَلَمْ يَرَوْا ﴾ ومعناه أن كل مهلك تقدمه قوم كذبوا وأهلكوا إلى قوم نوح وقبله.
وقوله :﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ بدل في المعنى عن قوله :﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ وذلك لأن معنى :﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ ألم يروا كثرة إهلاكنا، وفي معنى، ألم يروا المهلكين الكثيرين أنهم إليهم لا يرجعون، وحينئذٍ يكون كبدل الاشتمال، لأن قوله :﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ حال من أحوال المهلكين، أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم فيصير كقولك : ألا ترى زيداً أدبه، وعلى هذا فقوله :﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ فيه وجهان أحدهما : أهلكوا إهلاكاً لا رجوع لهم إلى من في الدنيا وثانيهما : هو أنهم لا يرجعون إليهم، أي الباقون لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة، يعني أهلكناهم وقطعنا نسلهم، ولا شك في أن الإهلاك الذي يكون مع قطع النسل أتم وأعم، والوجه الأول أشهر نقلاً، والثاني أظهر عقلاً، ثم قال تعالى :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٧٤
٢٧٥
لما بين الإهلاك بين أنه ليس من أهلكه الله تركه، بل بعده جمع وحساب وحبس وعقاب، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة، ونعم ما قال القائل :
ولو أنا إذا متنا تركنالكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثناونسأل بعده من كل شيء
وقوله :﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا﴾ في إن وجهان أحدهما : أنها مخففة من الثقيلة واللام في لما فارقة بينها وبين النافية، وما زائدة مؤكدة في المعنى، والقراءة حينئذٍ بالتخفيف في لما وثانيهما : أنها نافية ولما بمعنى إلا، قال سيبويه : يقال نشدتك بالله لما فعلت، بمعنى إلا فعلت، والقراءة حينئذٍ بالتشديد في لما، يؤيد هذا ما روي أن أبياً قرأ ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ﴾ وفي قوله سيبويه : لما بمعنى إلا وارد معنى مناسب وهو أن لما كأنها حرفا نفي جمعاً وهما لم وما فتأكد النفي، ولهذا يقال في/ جواب من قال قد فعل لما يفعل، وفي جواب من قال فعل لم يفعل، وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخر، قال الزمخشري : فإن قال قائل كل وجميع معنى واحد، فكيف جعل جميعاً خبراً لكل حيث دخلت اللام عليه، إذ التقدير وإن كل لجميع، نقول معنى جميع مجموع، ومعنى كل كل فرد حيث لا يخرج عن الحكم أحد، فصار المعنى كل فرد مجموع مع الآخر مضموم إليه، ويمكن أن يقال محضرون، يعني عما ذكره، وذلك لأنه لو قال : وإن جميع لجميع محضرون، لكان كلاماً صحيحاً ولم يوجد ما ذكره من الجواب، بل الصحيح أن محضرون كالصفة للجميع، فكأنه قال جميع جميع محضرون، كما يقال الرجل رجل عالم، والنبي نبي مرسل، والواو في ﴿وَإِن كُلٌّ﴾ لعطف الحكاية على الحكاية، كأنه يقول بينت لك ما ذكرت، وأبين أن كلاً لدينا محضرون، وكذلك الواو في قوله تعالى :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٧٥
٢٧٦
كأنه يقول : وأقول أيضاً آية لهم الأرض الميتة وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon