إشارة إلى أن كل شيء من الأشياء المذكورة خلق على وفق الحكمة، فالشمس لم تكن تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء فلا تدرك الثمار وقوله :﴿وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ قيل في تفسيره إن سلطان الليل وهو القمر ليس يسبق الشمس وهي سلطان النهار، وقيل معناه ولا الليل سابق النهار أي الليل لا يدخل وقت النهار والثاني بعيد لأن ذلك يقع إيضاحاً للواضح والأول صحيح إن أريد به ما بينته وهو أن معنى قوله تعالى :﴿وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ أن القمر إذا كان على أفق المشرق أيام الاستقبال تكون الشمس في مقابلته على أفق المغرب، ثم إن عند غروب الشمس يطلع القمر وعند طلوعها يغرب القمر، كأن لها حركة واحدة مع أن الشمس تتأخر عن القمر في ليلة مقداراً ظاهراً في الحس، فلو كان للقمر حركة واحدة بها يسبق الشمس ولا تدركه الشمس ؛ وللشمس حركة واحدة بها تتأخر عن القمر ولا تدرك القمر ؛ لبقي القمر والشمس مدة مديدة في مكان واحد، لأن حركة الشمس كل يوم درجة فخلق الله تعالى جميع الكواكب حركة أخرى غير حركة الشهر والسنة، وهي الدورة اليومية وبهذه الدورة لا يسبق كوكب كوكباً أصلاً، لأن كل كوكب من الكواكب إذا طلع غرب مقابله وكلما تقدم كوكب إلى الموضع الذي فيه الكوكب الآخر بالنسبة إلينا تقدم ذلك الكوكب، فبهذه الحركة لا يسبق الشمس، فتبين أن سلطان الليل لا يسبق سلطان النهار فالمراد من الليل القمر ومن النهار الشمس فقوله :﴿لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾ إشارة إلى حركتها البطيئة التي تتم الدورة في سنة وقوله :﴿وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ إشارة إلى حركتها اليومية التي بها تعود من المشرق إلى المشرق مرة أخرى في يوم وليلة، وعلى هذا ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر، وماذا يكون لو قال ولا القمر سابق الشمس ؟
نقول لو قال ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم التناقض، فإن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر أسرع ظاهراً، وإذا قال/ولا القمر سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع، فقال الليل والنهار ليعلم أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في مدة يوم وليلة، ويكون لجيمع الكواكب أو عليها طلوع وغروب في الليل والنهار.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٨٥
المسألة الثانية : ما الفائدة في قوله تعالى :﴿لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ﴾ بصيغة الفعل وقوله :﴿وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ بصيغة اسم الفاعل، ولم يقل ولا الليل يسبق ولا قال مدركة القمر ؟
نقول الحركة الأولية التي للشمس، ولا يدرك بها القمر مختصة بالشمس، فجعلها كالصادرة منها، وذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال هو يخيط ولا يكون يصدر منه الخياطة. والحركة الثانية ليست مختصة بكوكب من الكواكب بل الكل فيها مشتركة بسبب حركة فلك ليس ذلك فلكاً لكوكب من الكواكب، فالحركة ليست كالصادرة منه فأطلق اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال فلان خياط وإن يكن خياطاً، فإن قيل قوله تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ﴾ (الأعراف : ٥٤) يدل على خلاف ما ذكرتم، لأن النهار إذا كان يطلب الليل فالليل سابقه، وقلتم إن قوله :﴿وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ معناه ما ذكرتم فيكون الليل سابقاً ولا يكون سابقاً، نقول قد ذكرنا أن المراد بالليل ههنا سلطان الليل وهو القمر/ وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة، والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقيب الآخر فكأنه طالبه، فإن قيل فلم ذكر ههنا ﴿سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ وقد ذكر هناك يطلبه، ولم يقل طالبه ؟
نقول ذلك لما بينا من أن المراد في هذه السورة من الليل كواكب الليل، وهي في هذه الحركة كأنها لا حركة لها ولا تسبق، ولا من شأنها أنها سابقة، والمراد هناك نفس الليل والنهار وهما زمانان والزمان لا قرار له فهو يطلب حثيثاً لصدور التقصي منه، وقوله تعالى :﴿وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يحقق ما ذكرنا أي للكل طلوع وغروب في يوم وليلة لا يسبق بعضها بعضاً، بالنسبة إلى هذه الحركة وكل حركة في فلك تخصه وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon