أما اللغوية : فنقول :﴿ءَانٍ﴾ وردت للنفي بمعنى ما، وكان الأرض في إن أن تكون للشرط والأصل في ما أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتقارضا واستعمل ما في الشرط واستعمل إن في النفي، أما الوجه المشترك فهو أن كل واحد منهما حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الألف والميم من النون ولا بد من أن يكون المعنى الذي يدخل عليه ما وأن لا يكون ثابتاً أما في ما فظاهر، وأما في إن فلأنك إذا قلت إن جاءني زيد أكرمه ينبغي أن لا يكون له في الحال مجىء فاستعمل إن مكان ما، وقيل إن زيد قائم أي ما زيد بقائم واستعمل ما في الشرط تقول ما تصنع أصنع، والذي يدل على ما ذكرنا أن ما النافية تستعمل حيث لا تستعمل إن وذلك لأنك تقول ما إن جلس زيد فتجعل إن صلة ولا تقول إن جلس زيد بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول إما ترين فتجعل إن أصلاً وما صلة، فدلنا هذا على أن إن في الشرط أصل وما دخيل وما في النفي بالعكس.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٩٠
البحث الثاني : قد ذكرنا أن قوله :﴿إِنْ أَنتُمْ إِلا﴾ يفيد ما لا يفيد قوله : أنتم في ضلال لأنه يوجب الحصر وأنه ليسوا في غير الضلال.
البحث الثالث : وصف الضلال بالمبين قد ذكرنا معناه أنه لظهوره يبين نفسه أنه ضلال أي في ضلال لا يخفى على أحد أنه ضلال.
البحث الرابع : قد ذكرنا أن قوله :﴿فِى ضَلَـالٍ﴾ يفيد كونه مغمورين فيه غائصين، وقوله في مواضع ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ (الأنعام : ٥٧) و﴿عَلَى هُدًى﴾ (البقرة : ٥) إشارة إلى كونهم راكبين متن الطريق المستقيم قادرين عليه.
وأما المعنوية : فهي أنهم إنما وصفوا الذين آمنوا بكونهم في ضلال مبين لكونهم ظانين أن المؤمن كلامه متناقض ومن تناقض كلامه يكون في غاية الضلال، إنما قلنا ذلك لأنهم قالوا :﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَه ﴾ إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم كان يطعمهم فلا تدر على إطعامهم لأنه يكون تحصيلاً للحاصل، وإن لم يشأ الله إطعامهم لا يقدر أحد على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ الله فلا قدرة لنا على الإطعام، فكيف تأمرونا بالإطعام ووجه آخر : وهو أنهم قالوا أراد الله تجويعهم فلو أطعمناهم يكون ذلك سعياً في إبطال فعل الله وأنه لا يجوز وأنتم تقولون أطعموهم فهو ضلال ولم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر، وذلك لأن العبد إذا أمره السيد بأمر لا ينبغي أن يكشف سبب الأمر والإطلاع على المقصود الذي أمر به لأجله. مثاله : الملك إذا أراد الركوب للهجوم على عدوه بحيث لا يطلع عليه أحد وقال لعبده أحضر المركوب، فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عدوه على الحذر منه وكشف سره، فالأدب في الطاعة وهو اتباع الأمر لا تتبع المراد، فالله تعالى إذا قال : أنفقوا مما رزقكم لا يجوز أن يقولوا : لم لم يطعمهم الله مما في خزائنه. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٩٠
٢٩١
وهو إشارة إلى ما اعتقدوه وهو أن التقوى المأمور بها في قوله :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ﴾ (يس : ٤٥) والإنفاق المذكور في قوله تعالى :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا ﴾ (يس : ٤٧) لا فائدة فيه لأن الوعد لا حقيقة له وقوله :﴿مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ﴾ أي متى يقع الموعود به، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وهي أن إن للشرط وهي تستدعي جزاء ومتى استفهام لا يصلح جزاء فما الجواب ؟
نقول هي في الصورة استفهام، وفي المعنى إنكار كأنهم إن كنتم صادقين في وقوع الحشر فقولوا متى يكون.
المسألة الثانية : الخطاب مع من في قولهم :﴿إِن كُنتُمْ﴾ ؟
نقول الظاهر أنه مع الأنبياء لأنهم لما أنكروا الرسالة قالوا إن كنتم يا أيها المدعوون للرسالة صادقين فأخبرونا متي يكون.
المسألة الثالثة : ليس في هذا الموضع وعد فالإشارة بقوله :﴿هَـاذَا الْوَعْدُ﴾ إلى أي وعد ؟
نقول هو ما في قوله تعالى :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ﴾ (يس : ٤٥) من قيام الساعة، أو نقول هو معلوم وإن لم يكن مذكوراً لكون الأنبياء مقيمين على تذكيرهم بالساعة والحساب والثواب والعقاب.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٩١
٢٩٢