وقد ذكرنا مراراً أن الصراط المستقيم هو بين الجبر والقدر هو الطريقة الوسطى، والله تعالى في كل موضع ذكر ما يتمسك به المجبرة ذكر عقيبه ما يتمسك به القدرية وبالعكس، وههنا/ كذلك لما قال الله تعالى :﴿وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (يس : ٦٥) وقال :﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ (يس : ٦٤) وكان ذلك متمسك القدرية حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم وأحال الخير والشر عليهم، ذكر عقيبه ما يدل على أن كفرهم وكسبهم بمشيئة الله، وذلك لأن الكفر يعمي البصيرة ويضعف القوة العقلية، وعمى البصيرة بإرادة الله ومشيئته، إذا شاء أعمى البصائر، كما أنه لو شاء لطمس على أعينهم المبصرة، وسلب القوة العقلية باختياره ومشيئته، كما أن سلب القوة الجمسية بمشيئته، حتى لو شاء لمسخ المكلف على مكانته وأقامه بحيث لا يتحرك يمنة ولا يسرة، ولا يقدر على المضي والرجوع، فإعماء البصائر عنده كإعماء الأبصار، وسلب القوة العقلية كسلب القوة الجسمية، فقال :﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى ا أَعْيُنِهِمْ﴾ إشارة إلى أنه لو شاء وأراد إعماء بصائرهم فضلوا، وأنه لو شاء طمس أعينهم لما اهتدوا إلى طريقتهم الظاهرة، وشاء واختار سلب قوة عقولهم فزلوا، وإنه لو شاء سلب قوة أجسامهم ومسخهم لما قدروا على تقدم ولا تأخر. وفي الآيتين أبحاث لفظية :
البحث الأول : في قوله :﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ﴾ قال الزمخشري فيه وجوه الأول : أنه يكون فيه حذف حرف إلى واتصال الفعل من غير حرف وأصله فاستبقوا إلى الصراط الثاني : أن يكون المراد من الاستباق الابتدار مبالغة في الاهتداء إلى الطريق، كأنه يقول الصراط الذي هو معهم ليسوا طالبين له قاصدين إياه، وإنما هم عليه إذا همس الله على أعينهم لا يبصرونه، فكيف إن لم يكونوا على الصراط.
البحث الثاني : قدم الطمس والإعمار على المسخ والإعجاز ليكون الكلام مدرجاً، كأنه قال : إن أعماهم لم يروا الطريق الذي هم عليه وحينئذ لا يهتدون إليه، فإن قال قائل : الأعمى قد يهتدي إلى الطريق بأمارات عقلية أو حسية غير حس البصر كالأصوات والمشي بحس اللمس، فارتقى وقال : فلو مسخهم وسلب قوتهم بالكلية لا يهتدون إلى الصراط بوجه من الوجوه.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٠٥
البحث الثالث : قدم المضي على الرجوع، لأن الرجوع أهون من المضي، لأن المضي لا ينبيء عن سلوك الطريق من قبل، وأما الرجوع فينبيء عنه، ولا شك أن سلوك طريق قد رؤي مرة أهون من سلوك طريق لم ير فقال : لا يستطيعون مضياً ولا أقل من ذلك وهو الرجوع الذي هو أهون من المضي.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٠٥
٣٠٦
فقد ذكرنا أن قوله تعالى :﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ (يس : ٦٠) قطع للأعذار بسبق الإنذار، ثم لما قرر ذلك/ وأتمه شرع في قطع عذر آخر، وهو أن الكافر يقول لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيراً، ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيراً، فقال الله تعالى :﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُا أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ (فاطر : ٣٧) ثم إنكم علمتم أن الزمان كلما يعبر علكيم يزداد ضعفكم فضيعتم زمان الإمكان، فلو عمرناكم أكثر من ذلك لكان بعده زمان الإزمان، ومن لم يأت بالواجب زمان الإمكان ما كان يأتي به زمان الإزمان.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٠٦
في الترتيب وجهان، قد ذكرنا أن الله في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة، وهي الوحدانية والرسالة والحشر، ذكر الأصل الثالث منها، وههنا ذكر الأصلين الوحدانية والحشر، أما الوحدانية ففي قوله تعالى :﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَـابَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (يس : ٦٠) وفي قوله :﴿وَأَنِ اعْبُدُونِى هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ (يس : ٦١) وأما الحشر ففي قوله تعالى :﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ﴾ (يس : ٦٤) وفي قوله :﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى ا أَفْوَاهِهِمْ﴾ (يس : ٦٥) إلى غير ذلك، فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال :﴿وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنابَغِى لَه ا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ﴾ وقوله :﴿وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ﴾ إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يعلمه ما لم يرد، وفي تفسير الآية مباحث :


الصفحة التالية
Icon