ثم قوله تعالى :﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِىَ خَلْقَه ﴾ إشارة إلى بيان الحشر وفي هذه الآيات إلى/ آخر السورة غرائب وعجائب نذكرها بقدر الإمكان إن شاء الله تعالى، فنقول المنكرون للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة واكتفى بالاستبعاد وادعى الضرورة وهم الأكثرون، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم في كثير من المواضع بلفظ الاستبعاد كما قال :﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ (السجدة : ١٠) ﴿أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ (الصافات : ١٦) ﴿أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ﴾ (الصافات) إئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون} (الصافات : ٥٣) إلى غير ذلك فكذلك ههنا قال :(الصافات : ٥٣) إلى غير ذلك فكذلك ههنا قال :﴿قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ﴾ على طريق الاتسبعاد فبدأ أولاً بإبطال استبعادهم بقوله :﴿وَنَسِىَ خَلْقَه ﴾ أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء، ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصور والقوام وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل لذيـ(ن) بهما استحقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محل الحياة أصلاً، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه، ثم إن استبعادهم كان من جهة ما في المعاد من التفتت والتفرق حيث قالوا :﴿مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ﴾ اختاروا العظم للذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتفتت والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في المعيد من القدرة والعلم فقال :﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا﴾ أي جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، ومنهم من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين أحدهما : أنه بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود، وأجاب عن هذه الشبهة. بقوله تعالى :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٠٩
﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئاً مذكوراً وثانيها : أن من تفرقت أجزاؤه ف مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في جدران الرباع كيف يجمع ؟
وأبعد من هذا هو أن إنساناً إذا أكل إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيد فأجزاء المأول، إما أن تعاد إلى بدن الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تخلق منها أعضاؤه، وإما أن تعاد إلى بدن المأكول منه فلا يبقى للآكل أجزاء. فقال تعالى في إبطال هذه الشبهة : دوهو بكل خلق عليم} ووجهه هو أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية/ وفي المأكول كذلك، فإذا أكل إنسان إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان له قبل الأكل. ووجهه هو أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية، وفي المأكول كذلك، فإذا أكل إنسان إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان له قبل الأكل. ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلي للآكل وينفخ فيها روحه ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيها روحه، وكذلك يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع، المبددة في الأصقاع بحكمته الشاملة وقدرته الكاملة.
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم وعنادهم. فقال تعالى :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٠٩
٣١١
ووجهه هو أن الإنسان مشتمل على جسم يحس به وحياة سارية فيه، وهي كحرارة جارية فيه فإن استبعدتم وجود حرارة وحياة فيه فلا تستبعدوه، فإن النار في الشجر الأخضر الذي يقطر منه الماء أعجب وأغرب وأنتم تحضرون حيث من توقدون، وإن استبعدتم خلق جسمه فخلق السموات والأرض أكبر من خلق أنفسكم فلا تستبعدوه فإن الله خلق السموات والأرض فبان لطف قوله تعالى :﴿الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ﴾.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣١١
٣١٣
وقوله تعالى :﴿أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ﴾ قدم ذكر النار في الشجر على ذكر الخلق الأكبر، لأن استبعادهم كان بالصريح واقعاً على الأحياء حيث قالوا :﴿مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ﴾ (يس : ٧٨) ولم يقولوا من يجمعها ويؤلفها والنار في الشجر تناسب الحياة.