وأما قوله :﴿فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا﴾ فقال الليث : يقال زجرت البعير فأنا أجزره زجراً إذا حثثته ليمضي، وزجرت فلاناً عن سوء فانزجر أي نهيته فانتهى، فعلى هذا الزجر للبعير كالحث وازنسان/ كالنهي، إذا عرفت هذا فنقول في وصف الملائكة بالزجر وجوه الأول : قال ابن عباس يريد الملائكة الذي وكلوا بالسحاب يزوجرونها بمعنى أنهم يأتون بها من موضع إلى موضع الثاني : المراد منه أن الملائكة لهم تأثيرات في قلوب بني آدم على سبيل الإلهامات فهم يزجرونهم عن المعاصي زجراً الثالث : لعل الملائكة أيضاً يزجرون الشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء، وأقول قد ثبت في العلوم العقلية أن الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثر لا يقبل الأثر وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الموجودات ومتأثر لا يؤثر وهم عالم الأجسام وهو أخس الموجودات وموجود يؤثر في شيء ويتأثر عن شيء آخر وهو عالم الأرواح وذلك لأنها تقبل الأثر عن عالم كبرياء الله، ثم إنها تؤثر في عالم الأجسام، واعلم أن الجهة التي باعتبارها تقبل الأثر من عالم كبرياء الله غير الجهة التي باعتبارها تستولي على عالم الأجسام وتقدر على التصرف فيها وقوله :﴿فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا﴾ إشارة إلى الأشرف من الجهة التي باعتبارها تقوى على التأثير في عالم الأجسام إذا عرفت هذا فقوله :﴿وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا﴾ إشارة إلى وقوفها صفاً صفاً في مقام العبودية والطاعة بالخشوع والخضوع وهي الجهة التي باعتبارها تقبل تلك الجواهر القدسية أصناف الأنوار الإلهية والكمالات الصمدية وقوله تعالى :﴿فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا﴾ إشارة إلى تأثير الجواهر الملكية في تنوير الأرواح القدسية البشرية وإخراجها من القوة إلى الفعل/ وذلك لما ثبت أن هذه الأرواح النطقية البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس، وأن هذه الأرواح البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس، وأن هذه الأرواح البشرية إنما تنتقل من القول إلى الفعل في المعارف الإلهية والكمالات الروحانية بتأثيرات جواهر الملائكة ونظيره قوله تعالى :﴿يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ﴾ (النحل : ٢) وقوله :﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾ (
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٢٣
الشعراء : ١٩٢، ١٩٣) وقوله تعالى :﴿فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا﴾ (المرسلات : ٥) إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية دقيقة أخرى وهي أن الكمال المطلق للشيء إنما يحصل إذا كان تاماً وفوق التام والمراد بكونه تاماً أن تحصل جميع الكمالات اللائقة به حصولاً بالفعل والمراد بكونه فوق التام أن تفيض منه أصناف الكمالات والسعادات على غيره، ومن المعلوم أن كونه كاملاً في ذاته مقدم على كونه مكملاً لغيره، إذا عرفت هذا فقوله :﴿وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا﴾ إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها وقت وقوفها في مواقف العبودية وصفوف الخدمة والطاعة وقوله تعالى :﴿فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا﴾ إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي عن جواهر الأرواح البشرية وقوله تعالى :﴿فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا﴾ إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الناطقة البشرية، فهذه مناسبات عقلية واعتبارات حقيقية تنطبق عليها هذه الألفاظ الثلاثة، قال أبو مسلم الأصفهاني : لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة مبرءون عن هذه الصفة، والجواب من وجهين الأول : أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة ثم يجمع على صافات والثاني : أنهم مبرءون عن التأنيث المعنوي، أما التأنيث في/ اللفظ فلا، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة في هذا الوجه الثاني : أن تحمل هذه الصافات على النفوس البشرية الطاهرة المقدسة المقبلة على عبودية الله تعالى الذين هم ملائكة الأرض وبيانه من وجهين الأول : أن قوله تعالى :﴿وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا﴾ المراد الصفوف الصحالة عند أداء الصلوات بالجماعة وقوله :﴿فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا﴾ إشارة إلى قراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كأنهم بسبب قراءة هذه الكلمة يزجرون الشياطين عن إلقاء الوساوس في قلوبهم في أثناء الصلاة وقوله :﴿فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا﴾ إشارة إلى قراءة القرآن في الصلاة وقيل :﴿فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا﴾ إشارة إلى رفع الصوت بالقراءة كأنه يزجر الشيطان بواسطة رفع الصوت، روى أنه صلى الله عليه وسلّم طاف على بيوت أصحابه في الليالي فسمع أبا بكر يقرأ بصوت منخفض وسمع عمر يقرأ بصوت رفيع فسأل أبا بكر لم تقرأ هكذا ؟
فقال : المعبود سميع عليم وسأل عمر : لم تقرأ هكذا ؟
فقال : أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان الوجه الثاني : في تفسير هذه الألفاظ الثلاث في هذه الآية أن المراد من قوله :


الصفحة التالية
Icon