المسألة الخامسة : احتج الأصحاب بقوله تعالى :﴿رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد، قالوا : لأن أعمال العباد موجود فيما بين السموات والأرض، وهذه الآية دالة على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فالله ربه ومالكه، فهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله، وإن قالوا : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يليق بما يكون حاصلاً في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك، قلنا : إنها لما/ كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السموات والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السماء والأرض. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٢٣
٣٢٤
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة وحفص عن عاصم زينة منونة الكواكب بالجر وهو قراءة مسروق بن الأجدع، قال الفراء وهو رد معرفة على نكرة كما قال :﴿بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ﴾ (العلق : ١٥، ١٦) فرد نكرة على معرفة وقال الزجاج : الكواكب بدل من الزينة، لأنها هي كما تقول مررت بأبي عبد الله زيد. وقرأ عاصم بالتنوين في الزين ونصب الكواكب قال الفراء : يريد زينا الكواكب، وقال الزجاج : يجوز أن تكون الكواكب في النصف بدلاً من قوله بزينة، لأن بزينة في موضع نصب وقرأ الباقون (بزينة الكواكب) بالجر على الإضافة.
المسألة الثانية : بين تعالى أنه زين السماء الدنيا، وبين أنه إنما زينها لمنفعتين إحداهما : تحصيل الزينة والثانية : الحفظ من الشيطان المارد، فوجب أن نحقق الكلام في هذه المطالب الثالاثة أما الأول : وهو تزيين السماء الدنيا بهذه الكواكب، فلقائل أن يقول إنه ثبت في علم الهيئة أن هذه الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة، وأن السيارات الستة مركوزة في الكرات الست المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله :﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ والجواب أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب، وعلى أنا قد بينا في علم الهيئة أن الفلاسفة لم يتم لهم دليل في بيان أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن، ولعلنا شرحنا هذا الكلام في تفسير سورة ﴿تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ (الملك : ١) في تفسير قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ﴾ (الملك : ٥)، وأما المطلوب ال ثاني : وهو كون هذه الكواكب زينة السماء الدنيا ففيه بحثان :
البحث الأول : أن الزينة مصدر كالنسبة واسم لما يزن به، كالليقة اسم لما تلاق به الدواة قال صاحب الكشاف وقوله :﴿بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ يحتملهما فإن أردت المصدر فعلى إضافته إلى الفاعل أي بأن زينتها الكواكب أو على إضافته إلى المفعول أي بأن زان الله الكواكب وحسنها، لأنا/ إنما زينت السماء بحسنها في أنفسها، وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان أن تقع الكواكب بياناً للزينة، لأن الزينة قد تحصل بالكواكب وبغيرها، وأن يراد ما زينت به الكواكب.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٢٤
البحث الثاني : في بيان كيفية كون الكواكب زينة للسماء وجوه الأول : أن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها، فإن تحصل هذه الكواكب المشرقة المضيئة في سطح الفلك لا جرم بقي الضوء والنور في جرم الفلك بسبب حصول هذه الكواكب فيها قال ابن عباس :﴿بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ أي بضوء الكواكب الوجه الثاني : يجوز أن يراد أشكالها المتناسبة المختلفة كشكل الجوزاء وبنات نعش والثريا وغيرها الوجه الثالث : يجوز أن يكون المراد بهذه الزينة كيفية طلوعها وغروبها الوجه الرابع : أن الإنسان إذا نظر في الليلة الظلماء إلى سطح الفلك ورأى هذه الجواهر الزواهر مشرقة لامعة متلألئة على ذلك السطح الأزرق، فلا شك أنها أحسن الأشياء وأكملها في التركيب والجوهر، وكل ذلك يفيد كون هذه الكواكب زينة وأما المطلوب الثالث : وهو قوله :﴿وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ﴾ ففيه بحثان :
البحث الأول : فيما يتعلق باللغة فقوله :﴿وَحِفْظًا﴾ أي وحظناها، قال المبرد : إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله، مثل قولك أفعل وكرامة لأنه لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال، فكان المعنى أفعل ذلك وأكرمك كرامة، قال ابن عباس يريد حفظ السماء بالكواكب و﴿مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ﴾ يريد الذي تمرد على الله قيل إنه الذي لا يتمكن منه، وأصله من الملاسة ومنه قوله :﴿صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ﴾ (النمل : ٤٤) ومنه الأمرد : وذكرنا تفسير المارد عند قوله :﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ (التوبة : ١٠١).


الصفحة التالية
Icon