المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي ﴿عَجِبْتَ﴾ بضم التاء والباقون بفتحها قال الواحدي : والضم قراءة ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش وقراءة أهل الكوفة واختيار أبي عبيدة، أما الذين قرأوا بالفتح فقد احتجوا بوجوه الأول : أن القراءة بالضم تدل على إسناد العجب إلى الله تعالى وذلك محال، لأن التعجب حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء ومعلوم أن الجهل على الله محال والثاني : أن الله تعالى أضاف التعجب إلى محمد صلى الله عليه وسلّم في آية أخرى في هذه المسألة فقال : دوإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً} (الرعد : ٥)، والثالث : أنه تعالى قال :(الرعد : ٥)، والثالث : أنه تعالى قال :﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ﴾ والظاهر أنهم سخروا لأجل ذلك التعجب فلما سخروا منه وجب أن يكون ذلك التعجب صادراً منه، وأما الذين قرأوا بضم التاء، فقد أجابوا عن الحجة الأولى من وجوه الأول : أن القراءة بالضم لا نسلم أنها تدل على إسناد التعجب إلى الله تعالى، وبيانه أنه يكون التقدير قل يا محمد (بل عجبت ويسخرون) ونظيره قوله تعالى :﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ (مريم : ٣٨) معناه أن هؤلاء ما تقولون فيه أنتم هذا النحو من الكلام، وكذلك قوله تعالى :﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ (البقرة : ١٧٥) الثاني : سلمنا أن ذلك يقتضي إضافة التعجب إلى الله تعالى فلم قلتم إن ذلك محال ؟
ويروى أن شريحاً كان يختار القراءة بالنصب ويقول العجب لا يليق إلا بمن لا يعلم، قال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم فقال : إن شريحاً يعجب بعلمه وكان عبد الله أعلم، وكان يقرأ بالضم وتحقيق القول فيه أن نقول : دل القرآن والخبر على جواز إضافة العجب إلى الله تعالى، أما القرآن فقوله تعالى : دوإن تعجب فعجب قولهم} (الرعد : ٥) والمعنى إن تعجب يا محمد من قولهم، فهو أيضاً عجب عندي، وأجيب عنه أنه لا يمتنع أن يكون المراد وإن تعجب فعجب قولهم عندكم، وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلّم :"عجب ربكم من إلكم وقنوطكم، وعجب ربكم من شاب ليست له صبوة" وإذا ثبت هذا فنقول العجب من الله تعالى خلاف العجب من الآدميين كما قال :(الرعد : ٥) والمعنى إن تعجب يا محمد من قولهم، فهو أيضاً عجب عندي، وأجيب عنه أنه لا يمتنع أن يكون المراد وإن تعجب فعجب قولهم عندكم، وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلّم :"عجب ربكم من إلكم وقنوطكم، وعجب ربكم من شاب ليست له صبوة" وإذا ثبت هذا فنقول العجب من الله تعالى خلاف العجب من الآدميين كما قال :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٢٧
﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه ﴾ (الأنفال : ٣٠) وقال :﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ (التوبة : ٧٩) وقال تعالى :﴿وَهُوَ خَـادِعُهُمْ﴾ (النساء : ١٤٢) والمكر والخداع والسخرية من الله تعالى بخلاف هذه الأحوال من العباد، وقد ذكرنا أن القانون في هذا الباب أن هذه الألفاظ محمولة على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض. وكذلك ههنا من تعجب من شيء فإنه يستعظمه فالتعجب في حق الله تعالى محممول على أنه تعالى يستعظم تلك الحالة إن كانت قبيحة فيترتب العقاب العظيم عليه، وإن كانت حسنة فيترتب الثواب العظيم عليه، فهذا تمام الكلام في هذه المناظرة، والأقرب أن يقال القراءة بالضم إن ثبت بالتواتر وجب المصير إليها ويكون التأويل ما ذكرناه وإن لم تثبت هذه القراءة بالتواتر كانت القراءة بفتح التاء أولى والله أعلم. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٢٧
٣٢٩
اعلم أنه تعالى لما قرر الدليل القادع في إثبات إمكان البعث والقيامة حكى عن المنكرين أشياء أولها : النبي صلى الله عليه وسلّم يتعجب من إصرارهم على الإنكار وهم يسخرون منه في إصراره على الإثبات، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم مع أولئك الأقوام كانوا في غاية التباعد وفي طرفي النقيض وثانيها قوله :﴿وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ﴾، وثالثها قوله :﴿وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾ ويجب أن يكون المراد من هذا الثاني والثالث غير الأول لأن العطف يوجب التغاير ولأن التكرير خلاف الأصل، والذي عندي في هذا الباب أن يقال القوم كانوا يستبعدون الحشر والقياة ويقولون : من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ؟
وبلغوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك فلا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد عنهم إلا من وجهين أحدهما : أن يذكر لهم الدليل الدال على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن خلق السموات والأرض أشد وأصعب من إعادة إنسان بعد موته ؟
وهل تعلمون أن القادر على اوصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل الأيسر ؟
فهذا الدليل وإن كان جلياً قوياً إلا أن أولئك المنكرين إذا عرض على عقولهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها، وإذا ذكروا لم يذكروها لشدة/ بلادتهم وجهلهم، فلا جرم لم ينتفعوا بهذا النوع من البيان.


الصفحة التالية
Icon