﴿كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ أي من ناحية المواثيق والأيمان التي قدمتموها لنا الوجه الرابع : أن لفظ اليمين مستعار من القوة والقهر، لأن اليمين موصوفة بالقهر وبها يقع البطش، والمعنى أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتعيرونا عليه، ثم حكى الله تعالى عن الرؤساء أنهم أجابوا الأتباع من وجوه الأول : أنهم قالوا لهم ﴿بَلْ لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ يعني أنكم ما كنتم موصوفين بالإيمان حتى يقال إنا أزلناكم عنه الثاني : قولهم :﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانا ﴾ يعني لا قدرة لناعليكم حتى نقهركم ونجبركم الثالث :﴿بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَـاغِينَ﴾ أي ضالين غالين في معصية الله الرابع : قولهم :﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآا إِنَّا لَذَآاـاِقُونَ﴾ والمعنى أن الله تعالى لما إخبر عن/ وقوعنا في العذاب/ فلو لم يحصل وقوعنا في العذاب لما كان خبر الله حقاً، بل كان باطلاً، ولما كان خبر الله أمراً واجباً لا جرم، كان الوقوع في العذاب الأليم لازماً، قال مقاتل قوله تعالى :﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ ﴾ إشارة إلى قول الله لإبليس :﴿لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص : ٨٥) وقوله تعالى :﴿إِنَّا لَذَآاـاِقُونَ﴾ يعني لما وجب أن يحق علينا قول ربنا وجب أن نكون ذائقين لهذا العذاب الخامس قولهم :﴿فَأَغْوَيْنَـاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَـاوِينَ﴾ والمعنى أنا إنما أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية، وفيه دقيقة أخرى، كأنهم قالوا : إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاوٍ آخر ولزم التسلسل وذلك محال، فعلمنا أن حصول الغواية والرشاد ليس من قبلنا، بل من قبل غيرنا، وذلك الغير هو الذي ذكره فيما قبل، وهو قوله :﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ ﴾ ولما حكى الله تعالى كلام الأتباع للرؤساء وكلام الرؤساء للأتباع قال بعده :﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ يعني فالمتبوع والتابع والمخدوم والخادم مشتركون في الوقوع في العذاب كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية، ثم قال أيضاً :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٣٥
﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾ وعني بالمجرمين ههنا الكفار بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الكلمة :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ والضمير في قوله :﴿إِنَّهُمْ﴾ عائد إلى المذكور السابق وهو قوله :﴿بِالْمُجْرِمِينَ﴾ وهذا يدل على أن لفظ المجرم المطلق مختص في القرآن بالكافر، ثم بين تعالى أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب لأنهم كانوا مكذبين بالتوحيد وبالنبوة، أما التكذيب بالتوحيد فهو قوله تعالى :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ يعني ينكرون ويتعصبون لإثبات الشرك ويستنكفون عن الإقرار بالتوحيد. وأما التكذيب بالنبوة فهو قولهم :﴿لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون ﴾ ويعنون محمداً، ثم إنه تعالى كذبهم في ذلك الكلام فقال :﴿بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وتقرير هذا الكلام أنه جاء بالدين الحق لأنه ثبت بالعقل أنه تعالى منزه عن الضد والند والشريك فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلّم بتقرير هذه المعاني كان مجيئه بالدين الحق، قرأ ابن كثير ﴿أَيُّنَآ﴾ بهمزة وياء بعدها خفيفية ساكنة بلا مد، وقرأ نافع في رواية قالون وأبو عمرو على هذا التفسير يمدان والباقون بهمزتين بلا مد وقوله تعالى :﴿وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ يعني صدقهم في مجيئهم بالتوحيد ونفي الشريك، وهذا تنبيه على أن القول بالتوحيد دين لكل الأنبياء، ولما حكى الله عنهم تكذيبهم بالتوحيد والنبوة نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال :﴿إِنَّكُمْ لَذَآاـاِقُوا الْعَذَابِ الالِيمِ﴾ كأنه قيل فكيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده فأجاب عنه بقوله :﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ والمعنى أن الحكم يقتضي الأمر بالحسن والطاعة والنهي عن القبيح والمعصية والأمر والنهي لا يكمل المقصود منهما/ إلا بالترغيب في لثواب والترهيب بالعقاب وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحقيقه صوناً للكلام عن الكذب، فلهذا السبب وقعوا في العذاب ثم قال :﴿إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ يعني ولكن عباد الله (المخلصين ناجون وهو) من الاستثناء المنقطع.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٣٥
٣٣٨
العم أنه تعالى لما وصف أحوال المتكبرين عن قبول التوحيد المصرين علي إنكار النبوة أردفه بذكر حال المخلصين في كيفية الثواب، وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon