جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٤٥
٣٥١
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : الضمير في قوله من شيعته إلى ماذا يعود ؟
فيه قولان : الأول : وهو الأظهر أنه عائد إلى نوح عليه السلام أي من شيعة نوح أي من أهل بيته وعلى دينه ومنهاجه لإبراهيم، قالوا : وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح، وروى صاحب "الكشاف" أنه كان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة الثاني : قال الكلبي المراد من شيعة محمد لإبراهيم بمعنى أنه كان على دينه ومنهاجه فهو من شيعته وإن كان سابقاً له والأول أظهر، لأنه تقدم ذكر نوح عليه السلام، ولم يتقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم فعود الضمير إلى نوح أولى.
المسألة الثانية : العامل في ﴿إِذْ﴾ ما دل عليه قوله :﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِه ﴾ من معنى المشايعة يعني وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم.
أما قوله :﴿إِذْ جَآءَ رَبَّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله :﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ قولان : الأول : قال مقاتل والكلبي يعني خالص من الشرك، والمعنى أنه سلم من الشرك فلم يشرك بالله والثاني : قال الأصوليون المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس من المعاصي، فيدخل فيه كونه سليماً عن الشرك وعن الشك وعن الغل والغش والحقد والحسد. عن ابن عباس أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه، وسلم جميع الناس من غشه وظلمه وأسلمه الله تعالى فلم يعدل به أحداً، واحتج الذاهبون إلى القول الأول بأنه تعالى ذكر بعد هذه الكلمة إنكاره على قومه الشرك بالله، وهو قوله :﴿إِذْ قَالَ لابِيهِ وَقَوْمِه مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأن اللفظ مطلق فلا يقيد بصقة دون صفة، ويتأكد هذا بقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَه مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَـالِمِينَ﴾ (الأنبياء : ٥١) مع أنه تعالى قال :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ (الأنعام : ١٢٤) وقال :﴿وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ (الأنعام : ٧٥) فإن قيل ما معنى المجيءي بقلبه ربه ؟
قلنا معناه أنه أخلص لله قلبه، فكأنه أتحف حضرة الله بذلك القلب، ورأيت في التوراة أن الله قال لموسى أجب إلهك بكل قلبك.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥١
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن إبراهيم جاء ربه بقلب سليم ذكر أن من جملة آثار تلك السلامة أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد فقال :﴿إِذْ قَالَ لابِيهِ وَقَوْمِه مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ والمقصود من هذا الكلام تهجين تلك الطريقة وتقبيحها.
ثم قال :﴿ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ قال صاحب "الكشاف" أئفكا مفعول له تقديره أتريدون آلهة من دونه إفكاً، وإنما قدم المفعول على الفعل للعناية وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يقرر عندهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم، ويجوز أن يكون إفكاً مفعولاً به يعني أتريدون إفكاً، ثم فسر الإفك بقوله :﴿دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ على أنها إفك في أنفسها/ ويجوز أن يكون حالاً بمعنى تريدون آلها من دون الله آفكين.
ثم قال :﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ وفيه وجهان أحدهما : أتظنون برب العالمين أنه يجوز جعل هذه الجمادات مشاركة له في المعبودية وثانيها : أتظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في المعبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء.
ثم قال :﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ﴾ عن ابن عباس أنهم كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياًفي بيت الأصنام فيقدر على كسرها وههنا سؤالان الأول : أن النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أقدم عليه إبراهيم والثاني : أنه عليه السلام ما كان سقيماً فلما قال إني سقيم كان ذلك ذباً، واعلم أن العلماء ذكروا في الجواب عنهما وجوهاً كثيرة الأول : أنه نظر نظرة في النجوم في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه سقامة كالحمى في بعض ساعات الليل والنهار، فنظر ليعرف هل هي في تلك الساعة وقال :﴿إِنِّى سَقِيمٌ﴾ فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم وكان صادقاً فيما قال، لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت، وإنما تخلف لأجل تكسير أصنامهم الوجه الثاني : في الجواب أن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على غائب الأمور، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علوم النجوم وفي معانيه لا أنه نظر بعينه إليها، وهو كما يقال فلان نظر في الفقه وفي النحو وإنما أراد أن يوهمهم أنه يعلم ما يعلمون ويتعرف من حيث يتعرفون حتى إذا قال :﴿إِنِّى سَقِيمٌ﴾ سكنوا إلى قوله.


الصفحة التالية
Icon