اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، واعلم أن وجوه الأنعام وإن كانت كثيرة إلا أنها محصورة في نوعين إيصال المنافع إليه ودفع المضار عنه والله تعالى ذكر القسمين ههنا، فقوله :﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ﴾ إشارة إلى إيصال المنافع إليهما، وقوله :﴿وَنَجَّيْنَـاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ إشارة إلى دفع المضار عنهما.
أما القسم الأول : وهو إيصال المنافع، فلا شك أن المنافع على قسمين : منافع الدنيا ومنافع الدين، أما منافع الدنيا فالوجود والحياة والعقل والتربية الصحة وتحصيل صفات الكمال في ذات كل واحد منهما، وأما منافع الدين فالعلم والطاعة، وأعلى هذه الدرجات النبوة الرفيعة المقرونة بالمعجزات الباهرة القاهرة، ولما ذكر الله تعالى هذه التفاصيل في سائر السور، لا جرم اكتفى ههنا بهذا الرمز.
وأما القسم الثاني : وهو دفع الضرر فهو المراد من قوله :﴿وَنَجَّيْنَـاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ وفيه قولان : قيل إنه الغرق، أغرق الله فرعون وقومه، ونجى الله بني إسرائيل، وقيل الرماد أنه تعالى نجاهم من إيذاء فرعون حيث كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٥
٣٥٨
اعلم أن هذه القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر :﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ﴾ بغير همزة على وصل الألف والباقون بالهمزة وقطع الألف، قال أبو بكر بن مهران : من ذكر عند الوصل الألف فقد أخطأ، وكان أهل الشام ينكرونه ولا يعرفونه، قال الواحدي وله وجهان أحدهما : أنه حذف الهمزة من إلياس حذفاً، كما حذفها ابن كثير من قوله :﴿إِنَّهَا لاحْدَى الْكُبَرِ﴾ (المدثر : ٣٥) وكقول الشاعر :
ويلمها في هواء الجو طالبة
والآخر أنه جعل الهمزة التي تصحب اللام للتعريف كقوله :﴿وَالْيَسَعَ﴾.
المسألة الثانية : في إلياس قولان : يروى عن ابن مسعود أنه قرأ وإن إدريس، وقال إن إلياس هو إدريس، وهذا قول عكرمة، وأما أكثر المفسرين فهم متفقون على أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل وهو إلياس بن ياسين، من ولد هارون أخي موسى عليهم السلام، ثم قال تعالى :﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِه أَلا تَتَّقُونَ﴾ والتقدير اذكر يا محمد لقومك :﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ﴾ أي ألا تخافون الله، وقال الكلبي ألا تخافون عبادة غير الله. واعلم أنه لما خوفهم أولاً على سبيل الإجمال ذكر ما هو السبب لذلك الخوف فقال :﴿أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَـالِقِينَ﴾ وفيه أبحاث :
الأول : في (بعل) قولان أحدهما : أنه اسم علم لصنم كان لهم كمناة وهبل، وقيل كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه، وفتنوا به وعظموه، حتى عينوا له أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشأم، وبه سميت مدينتهم بعلبك. واعلم أن قولهم بعل اسم لصنم من أصنامهم لا بأس به، وأما قولهم إن الشيطان كان يدخل في جوف بعلبك ويتكلم بشريعة الضلالة. فهذا مشكل لأنا إن جوزنا هذا كان ذلك قادحاً في كثير من المعجزات، لأنه نقل في معجزات النبي صلى الله عليه وسلّم كلام الذئب معه وكلام الجمل معه وحنين الجذع، ولو جوزنا أن يدخل الشيطان فيجوف جسم ويتكلم. فحينئذٍ يكون هذا الاحتمال قائماً في الذئب والجمل والجذع، وذلك يقدح في كون هذه الأشياء معجزات القول الثاني : أن البعل هو الرب بلغة اليمن، يقال من بعل هذه الدار، أي من ربها، وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى، قال تعالى :﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ (البقرة : ٢٢٨) وقال تعالى :﴿وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا ﴾ (هود : ٧٢) فعلى هذا التقدير المعنى، أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٨
البحث الثاني : المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد خالقاً لأفعال نفسه، فقالوا : لو لم يكن غير الله خالقاً لما جاز وصف الله بأنه أحسن الخالقين، والكلام فيه قد تقدم في قوله تعالى :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ﴾ (المؤمنون : ١٤).
البحث الثالث : كان الملقب بالرشيد الكاتب يقول لو قيل : أتدعون بعلاً وتدعون أحسن الخالقين. أوهم أنه أحسن، لأنه كان قد تحصل فيه رعاية معنى التحسين وجوابه : أن فصاحة/ القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف، بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ. واعلم أنه لما عابهم على عبادة غير الله صرح بالتوحيد ونفى الشركاء، فقال :﴿اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ﴾ وفيه مباحث.
الأول : أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن حدوث الأشخاص البشرية كيف يدل على وجود الصانع المختار، وكيف يدل على وحدته وبراءته عن الأضداد والأنداد، فلا فائدة في الإعادة.


الصفحة التالية
Icon