وأما قوله :﴿وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الاوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ فالمعنى أن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون :﴿لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا﴾ أي كتاباً م كتب الأولين الذين نزل علهيم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله/ ولما كذبنا كما كذبوا. ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب المهيمن عتلى كل الكتب، وهو القرآن فكفروا به. ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا﴾ ثم قال تعالى :﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ أي فسوف يعلمون عاقبة هذا الكفر والتكذيب.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٦٥
٣٦٧
اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بقول تعالى :﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ أي عاقبة كفرهم أردفه بما يقوي قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال :﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ فبين أن وعده بنصرته قد تقدم والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ فبين أن وعده بنصرته قد تقدم والدليل عليه قوله تعالى :﴿كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى ﴾ (المجادلة : ٢١) وأيضاً أن الخير مقضى بالذات والشر مقضى بالعرض، وما بالذات أقوى مما بالعرض، وأما لنصرة والغلبة فقد تكون بقوة الحجة، وقد تكون بالدولة والاستيلاء، وقد تكون بالدوام والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب، ولا يلزم على هذه الآية أن يقال : فقد قتل بعض الأنبياء وقد هزم كثير من المؤمنين ثم قال تعالى لرسوله وقذ أخبره بما تقدم ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ﴾ والمراد إلى يوم بدر، وقيل إلى فتح مكة، وقيل إلى يوم القيامة، ثم قال :﴿وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ والمعنى بأبصرهم وما يقضي عليهم من القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة، فسوف يبصرونك مع ما قدر لك من النصرة والتأييد في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة، والمراد من الأمر المشاهد بأبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة، وأن كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك، وقوله :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٦٧
﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ للتهديد والوعيد، ثم قال :﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ والمعنى أن الرسول عليه السلام كان يهددهم بالعذاب، وما رأوا شيئاً فكانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب على سبيل الاستهزاء، فبين تعالى أن ذلك الاستعجال جهل، لأن لكل شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر، فكأن طلب حدوثه قبل مزجيء ذلك الوقت جهلاً، ثم قال تعالى : في صفة العذاب الذي يستعجلونه ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ أي هذا العذاب ﴿فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ﴾ وإنما وقع/ هذا التعبير عن هذه المعاني كأنهم كانوا يقدمون على العادة في وقت الصباح، فجعل ذكر ذلك الوقت كناية عن ذلك العمل، ثم أعاد تعالى قوله :﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ فقيل المراد من هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا، وفي هذه الكلمة أحوال القيامة، وعلى هذا التقدير فالتكرير زائل، قيل أن المراد من التكرير المبالغة في التهديد والتهويل، ثم إنه تعالى ختم السورة بخاتمة شريفة جامعة لكل المطالب العالية، وذلك لأنه أهم المهمات للعاقل معرفة أحوال ثلاثة فأولها : معرفة إله العالم بقدر الطاقة البشرية، وأقصى ما يمكن عرفانه من صفات الله تعالى ثلاثة أنواع أحدهما : تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهية، وهو لفظة سبحان وثانيها : وصفه بكل ما يليق بصفات الإلهية وهو قوله :﴿رَبِّ الْعِزَّةِ﴾ تفيد الاستغراق، وإذا كل الكل ملكاً له وملكاً له ولم يبق لغيره شيء، فثبت أن قوله :﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات في معرفة إله العالم والمهم الثاني : من مهمات العاقل أن يعرف أنه كيف ينبغي أن يعامل نفسه ويعامل الخلق في هذه الحياة الدنيوية.
واعلم أن أكثر الخلق ناقصون ولا بد لهم من مكمل يكملهم، ومرشد يرشدهم، وهاد يهيديهم، وما ذلك إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبديهة الفطرة شاهدة بأنه يجب على الناقص الاقتداء بالكامل، فنبه على هذا الحرف يقوله :﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ لأن هذا اللفظ يدل على أنهم في الكمال اللائق بالبشر فاقوا غيرهم، ولا جرم يجب على كل من سواءهم الاقتداء بهم والمهم الثالث : من مهمات العاقل أن يعرف أنه كيف يكون حاله بعد الموت.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٦٧
واعلم أن معرفة هذه الحالة قبل الموت صعبة، فالاعتماد فيها على حرف واحد، وهو أنه إله العالم غني رحيم، والغني الرحيم ولا يعذب فنبه على هذا الحرف بقوله :﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وذلك لأن استحقاق الحمد لا يحثل إلا بالإنعام العظيم، فبين بهذا كونه منعماً، وظاهر كونه غنياً عن العالمين، ومن هذا وصفه كان الغالب منه هو الرحمة والفضل والكرم، فكان هذا الحرف منبهاً على سلامة الحال بعد الموت، فظهر بما ذكرنا أن هذه الخاتمة كالصدفة المحتوية على درر أشرف من دراري الكواكب، ونسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة والعافية في الدنيا والآخرة.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٦٧
٣٦٩


الصفحة التالية
Icon