واعلم أن الكفار لما بالغوا في السفاهة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث قالوا : إنه ساحر كذاب وقالوا له على سبيل الاستهزاء :﴿عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا﴾ أمره الله بالصبر على سفاهتهم، فقال :﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ فإن قيل. أي تعلق بين قوله :﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ وبيّن قوله :﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ﴾ ؟
قلنا بيان هذا التعلق من وجوه الأول : كأنه قيل إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهال جرائتهم على الله وإنكارهم الحشر والنشر، فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن/ يوم الحشر، فإن بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفاً يزداد الضد الآخر نقصاناً والثاني : كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلّم لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك، فإنهم إذا خالفوك فالأكابر، من الأنبياء وافقوك والثالث : أن للناس في قصة داود قولين : منهم من قال إنها تدل على ذنبه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلّم إن حزنك ليس إلا، لأن الكفار يكذبونك، وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد، فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ومن قال بالثاني قال : الخصمان لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر الله تعالى محمداً عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق والخامس : أن قريشاً إنما كذبوا محمداً عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير، ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود، ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من اوحزان والغموم، ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا والسادس : أن قوله تعالى :﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ﴾ غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال :﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهم خاص وحزن خاص، فحينئذٍ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان، وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم، وسيجيء ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله :﴿كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ﴾ (ص : ٢٩) واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٨٩


الصفحة التالية
Icon