الصفة العاشرة : قوله :﴿وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ واعلم أن أجسام هذا العالم على ثلاثة أقسام أحدهما : ما تكون خالية عن الإدراك والشعور وهي الجمادات والنباتات وثانيها : التي يحصل لها إدراك وشعور ولكنها لا تقدر على تعريف غيرها الأحوال التي عرفوها في الأكثر وهذا القسم هو جملة الحيوانات سوى الإنسان وثالثها : الذي يحصل له إدراك وشعور ويحصل عنده قدرة على تعريف غيره الأحوال المعلومة له، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف غيره الأحوال المعلومة، له، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف الغير الأحوال المعلومة عنده بالنطق والخطاب، ثم إن الناس مختلفون في مراتب القدرة على التعبير عما في الضمير، فمنهم من يتعذر عليه إيراد الكلام المرتب المنتظم بل يكون مختلط الكلام مضطرب القول، ومنهم من يتعذر عليه الترتيب من بعض الوجوه، ومنهم من يكون قادراً على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى/ أقص الغايات، وكل من كانت هذه القدرة في حقه أكمل كانت الآثار الصادرة عن النفس النطقية في حقه أكمل، وكل من كانت تلك القدرة في حقه أقل كانت تلك الآثار أضعف، ولما بيّن الله تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله :﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَه ﴾ أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة فقال وفصل الخطاب وهذا الترتيب في غاية الجلالة، ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه أما بعد، وأقول حقاً إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً والله أعلم، وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضاً، لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادراً على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال، بيحث لا يختلط شيء بشيء، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام والله أعلم، وههنا آخر الكلام في الصفات العشرة التي ذكرها الله تعالى في مدح داود عليه السلام.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٨٩
٣٩٢
اعلم أن الله تعالى لما مدحه وأثنى عليه من الوجوه العشرة أردفه بذكر قصة ليبين بها أن الأحوال الواقعة في هذه القصة لا يبين شيء منها كونه عليه السلام مستحقاً للثناء والمدح العظيم.
أما قوله تعالى :﴿وَهَلْ أَتَـاـاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ﴾ فهو نظير قوله تعالى :﴿هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴾ (طه : ٩) وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها، ليكون داعياً إلى الإصغاء لها والاعتبار بها، وأقول للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال أحدها : ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه وثانيها : دلالتها على الصغيرة وثالثها : بحيث لا تدل على الكبيرة ولا على الصغيرة.
فأما القول الأول فحاصل كلامهم فيها ؛ أن داود عشق امرأة أوريا، فاحتال بالوجوه الكثيرة حتى قتل زوجها ثم تزوج بها فأرسل الله إليه ملكين مفي صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته، وعرضا تلك الواقعة عليه. فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً، ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة.
والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه الأول : أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجوراً لا ستنكف منها والرجل الحشوي الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه الثاني : أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول : فأمر منكر قال صلى الله عليه وسلّم :"من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله" وأما الثاني : فمنكر عظيم قال صلى الله عليه وسلّم :"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه والثالث : أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة، ووصفه أيضاً بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح، ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
فنقول أما الصفات الأولى : فهي أنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة، ولو قلنا إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعي في إراقة دم امرىء مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله.


الصفحة التالية
Icon