أما الاحتمال الثاني : وهو أن تحمل هذه القصة على وجه يوجب حصول الصغيرة ولا يوجب حصول الكبير، فنقول في كيفية هذه القصة على هذا التقدير وجوه الأول : أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود فأثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه الثاني : قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في ذها ذنب ألبتة، أما وقع بصره لعيها من غير قصد فذلك لي بذنب، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضاً ذنباً لأن هذا الميل ليس في وسعه، فلا يكون مكلفاً به بل لما اتفق أن قتل زوجها لم يتأذ تأذياً عظيماً بسبب/ قتله لأجل أنه طمع أٌّ يتزوج بتلك المرأة فحصلت الزلة بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل والثالث : أنه كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن يطلق امرأته حتى يتزوجها وكانت عادتهم في هذا المعنى مألوفة معروفة أوى أن الأنصار كانوا يساوون المهاجرين بهذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة، إلا أنه لا يليق بك، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
وأما الإحتمال الثالث : وهو أن هذه القصة على وحه لا يلزم إلحاق الكبيرة والصغيرة بداود عليه السلام، بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام، وكان له يوم يخلو فيه ننفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً يمنعونه منهم فخافوا فوضعوا كذباً، فقالوا خصمان بغي بعضنا على بعض إلى آخر القصة، ولي في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود إلا ألفاظ أربعة أحدهما : قوله :﴿وَظَنَّ دَاوُادُ أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ﴾، وثانيها : قوله تعالى :(فاستغفر ربه) وثالثها : قوله :﴿وَأَنَابَ ﴾ ورابعها : قوله :﴿فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَ ﴾ ثم نقول، وهذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه، وتقريره من وجوه الأول : أنهم لما دخول عليه لطلب قتله بهذا الطريق/ وعلم داود عليه السلام ذلك دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم، إلا أنه قال إلى الصفح والتجاوز عنهم طلباً لمرضاة الله، قال وكانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهم وأناب، فغفر له ذلك القدر من الهم والعز والثاني : أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه، إلا أنه ندم على ذلك الظن، وقال : لما لم تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك، فبئسما علمت بهم حيث ظننت بهم هذا الظن الرديء، فكان هذا هو المراد من قوله :﴿وَظَنَّ دَاوُادُ أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ منه فغفر الله له ذلك الثالث : أن دخولهم عليه كان فتنة لداود عليه السلام، إلا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله، كما قال في حق محمد صلى الله عليه وسلّم :﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ ﴾ (محمد : ١٩) فداود عليه السلام استغفر لهم وأناب، أي رجع إلى الله تعالى في طلب مغفرة ذلك الداخل القاصد للقتل، وقوله :﴿فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَ ﴾ أي غفرنا له ذلك الذنب لأجل احترام ذاوود ولتعظيمه، كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٢


الصفحة التالية
Icon