الثالث : أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أخبر الملائكة بأنه خلق بشراً من طين. لم يقولوا شيئاً، وفي الآية الأخرى وهي التي قال :﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً ﴾ (البقرة : ٣٠) بين أنهم أوردوا السؤال والجواب فبينهما تناقض، والجواب عن الأول أن التقدير كأنه سبحانه وصف لهم أولاً أن البشر شخص جامع للقوة البهيمية والسبعية والشيطانية والملكية، فلما قال :﴿إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾ فكأنه قال ذلك الشخص المستجمع لتلك الصفات، إنما أخلقه من الطين، والجواب عن الثاني أن المادة البعيدة هو التراب، وأقرب منه الطين، وأقرب منه الحمأ المسنون، وأقرب منه الصلصال فثبت أنه لا منافاة بين الكل، والجواب عن الثالث أنه في الآية المذكورة في سورة البقرة بين لهم أنه يخلق في الأرض خليفة، وبالآية المذكورة ههنا بين أن ذلك الخليفة بشر مخلوق من الطين.
المسألة الثانية : قال ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ وهذا يدل على أن تخليق البشر لا يتم إلا بأمرين التسوية أولاً/ ثم نفخ الروح ثانياً، وهذا حق لأن الإنسان مركب من جسد ونفس.
أما الجسد فإنه إنما يتولد من المني، والمني إنما يتولد من دم الطمث وهو إنما يتولد من الأخلاط الأربعة، وهي إنما تتولد من الأركان الأربعة، ولا بد في حصول هذه التسوية من رعاية مقدار مخصوص لكل واحد منها، ومن رعاية كيفية امتزاجاتها وتركيباتها، ومن رعاية المدة التي في مثلها حصل ذلك المزاج الذي لأجله يحصل الاستعداد لقبول النفس الناطقة.
وأما النفس فإليها الإشارة بقوله :﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ ولما أضاف الروح إلى نفسه دل على أنه جوهر شريف علوي قدسي، وذهبت الحلولية إلى أن كلمة (من) تدل على التبعيض، وهذا يوهم أن الروح جزء من أجزاء الله تعالى، وهذا غاية الفساد، لأن كل ما له جزء وكل، فهو مركب وممكن الوجود لذاته ومحدث.
وأما كيفية نفخ الروح، فاعلم أن الأقرب أن جوهر النفس عبارة عن أجسام شفافة نورانية، علوية العنصر، قدسية الجوهر، وهي تسري في البدن سريان الضوء في الهواء، وسريان النار في الفحم، فهذا القدر معلوم. أما كيفية ذلك النفخ فمما لا يعلمه إلا الله تعالى.
المسألة الثالثة : الفاء في قوله :﴿فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ﴾ تدل على أنه كما تم نفخ الروح في الجسد توجه أمر الله عليهم بالسجود، وأما أن المأمور بذلك السجود ملائكة الأرض، أو دخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل وميكائيل، والروح الأعظم المذكور في قوله :﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا ﴾ (النبأ : ٣٨) ففيه مباحث عميقة. وقال بعض الصوفية : الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم، هم القوى النباتية والحيوانية الحسية والحركية، فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة، / وإبليس الذي لم يسجد هو القوة الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل، والكلام فيه طويل. وأما بقية المسائل وهي : كيفية سجود الملائكة لآدم، وأن ذلك هل يدل على كونه أفضل من الملائكة أم لا، وأن إبليس هل كان من الملائكة أم لا، وأنه هل كان كافراً، أصلياً أم لا، فكل ذلك تقدم في سورة البقرة وغيرها.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤١٨
المسألة الرابعة : احتج من أثبت الأعضاء والجوارح لله تعالى بقوله تعالى :﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ﴾ في إثبات يدين لله تعالى، بأن قالوا ظاهر الآية يدل عليه، فوجب المصير إليه، والآيات الكثيرة واردة على وفق هذه الآية، فوجب القطع به.


الصفحة التالية
Icon