المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة أن الكل بقضاء الله من وجوه الأول : أنه تعالى قال في حق إبليس :﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ فهذا إخبار من الله تعالى بأنه لا يؤمن، فلو آمن لانقلب خبر الله الصدق كذباً وهو محال، فكان صدور الإيمان منه محالاً مع أنه أمر به والثاني : أنه قال :﴿فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فالله تعالى علم منه أنه يغويهم، وسمع منه هذه الدعوى، وكان قادراً على منعه عن ذلك، والقادر على المنع إذا لم يمنع كان راضياً به، فإن قالوا : لعل ذلك المنع مفسد، قلنا : هذا قول فاسد، لأن ذلك المنع يخلص إبليس عن الإضلال، ويخلص بني آدم عن الضلال، وهذا عين المصلحة الثالث : أنه تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من الكفرة، فلو لم يكفروا لزم الكذب والجهل في حق الله تعالى الرابع : أنه لو أراد أن لا يكفر الكافر لوجب أن يبقى الأنبياء والصالحين، وأن يميت إبليس والشياطين، وحيث قلب الأمر علمنا أنه فاسد الخامس : أن تكليف أولئك الكفار بالإيمان، يقتضي تكليفهم بالإيمان بهذه الآيات التي هي دالة على أنهم لا يؤمنون ألبتة، وحينئذ يلزم أن يصيروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة، وذلك تكليف بما لا يطاق، والله أعلم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤١٨
٤٢٢
اعلم أن الله تعالى ختم هذه السورة بهذه الخاتمة الشريفة، وذلك لأنه تعالى ذكر طرقاً كثيرة دالة على وجوب الاحتياط في طلب الدين، ثم قال عند الختم : هذا الذي أدعو الناس إليه يجب أن ينظر في حال الداعي، وفي حال الدعوة ليظهر أنه حق أبو باطل. أما الداعي وهو أنا. فأنا لا أسألكم على هذه الدعوة أجراً ومالاً، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طعمه عن طلب المال ألبتة، وكان من الظاهر أنه صلى الله عليه وسلّم كان بعيداً عن الدنيا عديم الرغبة فيها، وأما كيفية الدعوة/ فقال : وما أنا من المتكلفين، والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً، والذي يغلب على الظن أن المراد أن هذا الذي أدعوكم إليه دين ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة، بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته، فإني أدعوكم إلى الإقرار بوجود الله أولاً : ثم أعوكم ثانياً : إلى تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق به، يقوي ذلك قوله :﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ ﴾ وأمثاله، ثم أدعوكم ثالثاً : إلى الإقرار بكونه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة، ثم أدعوكم رابعاً : إلى الإقرار بكونه منزهاً عن الشركاء والأضداد، ثم أعوكم خامساً : إلى الإمتناع عن عبادة هذه الأوثان، التي هي جمادات خسيسة ولا منفعة في عبادتها ولا مضرة في الإعراض عنها، ثم أدعوكم سابعاً : إلى الإقرار بالبعث والقيامة :﴿لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَا اُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ (النجم : ٣١) ثم أدعوكم ثامناً : إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، فهذه الأصول الثمانية، هي الأصول القوية المعتبرة في دين الله تعالى، ودين محمد صلى الله عليه وسلّم وبدائه العقول، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعو الخلق إليها. بل كان عقل سليم وطبع مستقيم، فإنه يشهد بصحتها وجلالتها، وبعدها عن الباطل والفساد وهو المراد من قوله :﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ ولما بين هذه المقدمات قال :﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَه بَعْدَ حِين ﴾ والمعنى أنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد، وأبيتم قبول هذه البيانات التي ذكرناها، فستعلمون بعد حين أنكم كمنتم مصيبين في هذا الإعراض أو مخطئين، وذكر مثل هذه الكلمة بعد تلك البيانات المتقدمة مما لا مزيد عليه في التخويف والترهيب، والله أعلم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٢٢
٤٢٧