وأما القسم الثاني : فهو حوادث هذا العالم الأعلى، وإذا ثبت هذا فنقول من طلب حوادث هذا العالم الأسفل لا من الأسباب التي عينها الله تعالى كان هذا الشخص منازعاً لله في حكمته مخالفاً في تدبيره، فإن الله تعالى حكم بحدوث هذه الأشياء بناءً على تلك الأسباب المعينة المعلومة وأنت تريد تحصيلها لا من تلك الأسباب، فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ﴾ إشارة إلى الإعراض عن غير الله وقوله تعالى :﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ إشارة إلى الإقبال بالكلية على عبادة الله، ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها : قوله تعالى :﴿لَهُمُ الْبُشْرَى ﴾ واعلم أن هذه الكلمة تتعلق بجهات أحدها : أن هذه البشارة متى تحصل ؟
فنقول إنها تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر وعند الوقوف في عرصة القيامة وعندما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير وعندما يدخل المؤمنون الجنة، ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل البشارة بنوع من الخير والروح والرحة والريحان وثانيها : أن هذه البشارة فبماذا تحصل ؟
فنقول إن هذه البشارة تحصل بزوال المكروهات وبحصول المرادات، أما زوال المكروهات فقوله تعالى :﴿أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ﴾ (فصلت : ٣٠) والخوف إنما يكون من المستقبل والحزن إنما يكون بسبب الأحوال الماضية فقوله :﴿أَلا تَخَافُوا ﴾ يعني لا تخافوا فيما تستقبلونه من أحوال القيامة ولا تحزنوا بسبب ما فاتكم من خيرات الدنيا، ولما أزال الله عنهم هذه المكروهات بشرهم بحصول الخيرات والسعادات فقال :﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ﴾ (فصلت : ٣٠) وقال أيضاً في آية أخرى :﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم بُشْرَاـاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ﴾ (الحديد : ١٢) وقال أيضاً :﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُا وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ﴾ (الزخرف : ٧١) والثالث : أن المبشر من هو ؟
فنقول يحتمل أن يكون هم الملائكة، إما عند الموت فقوله :﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ طَيِّبِينَا يَقُولُونَ سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ﴾ (النحل : ٣٢) وإما بعد دخول الجنة فقوله :﴿وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد : ٢٣، ٢٤) ويحتمل أن يكون هو الله سبحانه كما قال :﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌ ﴾ (الأحزاب : ٤٤).
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٥٠
واعلم أن قوله :﴿لَهُمُ الْبُشْرَى ﴾ فيه أنواع من التأكيدات أحدها : أنه يفيد الحصر فقوله :﴿لَهُمُ الْبُشْرَى ﴾ أي لهم لا لغيرهم، وهذا يفيد أنه لا بشارة لأحد إلا إذا اجتنب عبادة غير الله تعالى وأقبل بالكلية على الله تعالى وثانيها : أن الألف واللام في لفظ البشرى مفيد للماهية فيفيد أن هذه الماهية بتمامها لهؤلاء/ ولم يبق منها نصيب لغيرهم وثالثها : أن لا فرق بين الإخبار وبين البشارة فالبشارة هو الخبر الأول بحصول الخيرات، إذا عرفت هذا فنقول كل ما سمعوه في الدنيا من أنواع الثواب والخير إذا سمعوه عند الموت أو في القبر فذاك لا يكون إلا إخباراً، فثبت أن هذه البشارة لا تتحقق إلا إذا حصل الإخبار بحصول أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها وسمعوها في الدنيا نسأل الله تعالى الفوز بها، قال تعالى :﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ (السجدة : ١٧) ورابعها : أن المخبر بقوله :﴿لَهُمُ الْبُشْرَى ﴾ هو الله تعالى وهو أعظم العظماء وأكمل الموجودات والشرط المعتبر في حصول هذه البشارة شرط عظيم وهو الاجتناب عما سوى الله تعالى والإقبال بالكلية على الله والسلطان العظيم إذا ذكر شرطاً عظيماً. ثم قال لمن أتى بذلك الشرط العظيم أبشر فهذه البشارة الصادرة من السلطان العظيم المرتبة على حصول ذلك الشرط العظيم تدل على أن الذي وقعت البشارة به قد بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يصل إلى شرحها العقول والأفكار، فثبت أن قوله :﴿لَهُمُ الْبُشْرَى ﴾ يدل على نهاية الكمال والسعادة من هذه الوجوه والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon