والأصل الثاني : أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله :﴿قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ﴾ فثبت أنه لا بد من الإقرار بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم، وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر، وإذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية، وكان الاعتماد عليه كافياً وهو المراد من قوله :﴿قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ فإذا ثبت هذا الأصل لم يلتفت العاقل / إلى تخويف المشركين فكان المقصود من هذه الآية هو التنبيه على الجواب عما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله تعالى :﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِه ﴾ وقرىء :﴿كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه ﴾ و﴿مُمْسِكَـاتُ رَحْمَتِه ﴾ (الزمر : ٣٨) بالتنوين على الأصل وبالإضافة للتخفيف، فإن قيل كيف قوله :﴿كَـاشِفَـاتُ﴾ و﴿مُمْسِكَـاتُ﴾ على التأنيث بعد قوله :﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِه ﴾ ؟
قلنا المقصود التنبيه على كمال ضعفها فإن الأنوثة مظنة الضعف ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويقولون اللات والعزى ومناة، ولما أورد الله عليهم هذه الحجة التي لا دفع لها قال بعده على وجه التهديد :﴿قُلْ يَـاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ أي أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم، فإني عامل أيضاً في تقرير ديني ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أن العذاب والخزي يصيبني أو يصيبكم والمقصود منه التخويف.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٥٨
٤٦٣
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال :﴿فَلَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ا ءَاثَـارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا ﴾ (الكهف : ٦) وقال :﴿لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء : ٣) وقال تعالى :﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ (فاطر : ٨) فلما أطنب الله تعالى في هذه الآية في فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل والبينات وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل / ذلك الخوف العظيم عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ الكامل الشريف لنفع الناس ولاهتدائهم به وجعلنا إنزاله مقروناً بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله فمن اهتدى فنفعه يعود إليه، ومن ضل فضير ضلاله يعود إليه ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ والمعنى أنك لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم، وذلك لتسلية الرسول في إصرارهم على الكفر، ثم بين تعالى أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى، وذلك لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم، وكما أن الحياة واليقظة وكذلك الموت والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله عز وجل وإيجاده فكذلك الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى، ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، فيصير التنبيه على هذه الدقيقة سبباً لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم فهذا وجه النظم في الآية، وقيل نظم الآية أنه تعالى ذكر حجة أخرى في إثبات أنه الإله العالم ليدل على أنه بالعبادة أحق من هذه الأصنام.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٦٣


الصفحة التالية
Icon