المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآية تدل على الرحمة من وجوه : الأول : أنه سمى/ المذنب بالعبد والعبودية مفسرة بالحاجة والذلة والمسكنة، واللائق بالرحيم الكريم إفاضة الخير والرحمة على المسكين المحتاج. الثاني : أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة فقال :﴿قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ﴾ وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب الثالث : أنه تعالى قال :﴿أَسْرَفُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ﴾ ومعناه أن ضرر تلك الذنوب ما عاد إليه بل هو عائد إليهم، فيكفيهم من تلك الذنوب عود مضارها إليهم، ولا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم الرابع : أنه قال :﴿لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه ﴾ نهاهم عن القنوط فيكون هذا أمراً بالرجاء والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم الخامس : أنه تعالى قال أولاً :﴿فِى عِبَـادِى﴾ وكان الأليق أن يقول لا تقنطوا من رحمتي لكنه ترك هذا اللفظ وقال :﴿لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه ﴾ لأن قولنا الله أعظم أسماء الله وأجلها، فالرحمة المضافة إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة والفضل السادس : أنه لما قال :﴿لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه ﴾ كان الواجب أن يقول إنه يغفر الذنوب جميعاً ولكنه لم يقل ذلك، بل أعاد اسم الله وقرن به لفظة إن المفيدة لأعظم وجوه التأكيد، وكل ذلك يدل على المبالغة في الوعد بالرحمن السابع : أنه لو قال :﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ﴾ لكان المقصود حاصلاً لكنه أردفه باللفظ الدال على التأكيد فقال جميعاً وهذا أيضاً من المؤكدات الثامن : أنه وصف نفسه بكونه غفوراً، ولفظ الغفور يفيد المبالغة التاسع : أنه وصف نفسه بكونه رحيماً والرحمة تفيد فائدة على المغفرة فكان قوله ﴿إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ﴾ إشارة إلى إزالة موجبات العقاب، وقوله ﴿الرَّحِيمِ﴾ إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة والثواب العاشر : أن قوله ﴿إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ يفيد الحصر، ومعناه أنه لا غفور ولا رحيم إلا هو، وذلك يفيد الكمال في وصفه سبحانه بالغفران والرحمة، فهذه الوجوه العشرة مجموعة في هذه الآية، وهي بأسرها دالة على كمال الرحمة والغفران، ونسأل الله تعالى الفوز بها والنجاة من العقاب بفضله ورحمته.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٧٢
المسألة الثالثة : ذكروا في سبب النزول وجوهاً، قيل إنها نزلت في أهل مكة فإنهم قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم ؟
وقيل نزلت في وحشي قاتل حمزة لما أراد أن يسلم وخاف أن لا تقبل توبته، فلما نزلت الآية أسلم، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه له خاصة أم للمسلمين عامة ؟
فقال بل للمسلمين عامة وقيل نزلت في أناس أصابوا ذنوباً عظاماً في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أشفقوا لا يقبل الله توبتهم، وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم فتنوا فافتتنوا وكان المسلمون يقولون فيهم لا يقبل الله منهم توبتهم فنزلت هذه الآيات فكتبها عمر/ وبعث بها إليهم فأسلموا وهاجروا، واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزول هذه الآيات في هذه الوقائع لا يمنع من عمومها.
المسألة الرابعة : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم ﴿فِى عِبَـادِى﴾ بفتح الياء والباقون/ وعاصم في بعض الروايات بغير فتح وكلهم يقفون عليه بإثبات الياء لأنها ثابتة في المصحف، إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء، وقرأ أبو عمرو والكسائي تقنطوا بكسر النون والباقون بفتحها وهما لغتان، قال صاحب "الكشاف"، وفي قراءة ابن عباس، وابن مسعود ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
ثم قال تعالى :"وأنيبوا إلى ربكم} قال صاحب "الكشاف" أي وتوبوا إليه وأسلموا له أي وأخصلوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه، وأقول هذا الكلام ضعيف جداً لأن عندنا التوبة عن المعاصي واجبة فلم يلزم من ورود الأمر بها طعن في الوعد بالمغفرة، فإن قالوا لو كان الوعد بالمغفرة حاصلاً قطعاً لما احتيج إلى التوبة، لأن التوبة إنما تراد لإسقاط العقاب، فإذا سقط العقاب بعفو الله عنه فلا حاجة إلى التوبة، فنقول هذا ضعيف لأن مذهبنا أنه تعالى وإن كان يغفر الذنوب قطعاً ويعفو عنها قطعاً إلا أن هذا العفو والغفران يقع على وجهين تارة يقع ابتداء وتارة يعذب مدة في النار ثم يخرجه من النار ويعفو عنه، ففائدة التوبة إزالة هذا العقاب، فثبت أن الذي قاله صاحب "الكشاف" ضعيف ولا فائدة فيه.


الصفحة التالية
Icon