المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بمفازاتهم على الجمع، والباقون بمفازتهم على التوحيد، وحكى الواحدي عن الفرّاء أنه قال : كلاهما صواب، إذ يقال في الكلام قد تبين أمر القوم وأمور القوم، قال أبو علي الفارسي : الإفراد للمصدر ووجه الجمع أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها، كقوله تعالى :﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ (الأحزاب : ١٠) ولا شك أن لكل متق نوعاً آخر عن المفازة.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٧٨
المسألة الثانية : المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة، فكأن المعنى أن النجاة في القياملاة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات، فعبر عن الفوز بأوقاتها ومواضعها.
ثم قال :﴿لا يَمَسُّهُمُ السُّواءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والمراد أنه كالتفسير لتلك النجاة، كأنه قيل كيف ينجيهم ؟
فقيل :﴿لا يَمَسُّهُمُ السُّواءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ وهذه كلمة جامعة لأنه إذا لا يمسه السوء كان فارغ البال بحسب الحال عما وقع في قله بسبب فوات الماضي، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات، ونسأل الله الفوز بهذه الدرجات بمنه وكرمه.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة، وتأكد هذا بقوله ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ﴾ (الأنبياء : ١٠٣).
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٧٨
٤٧٩
واعلم أنه لما أطال الكلام في شرح الوعد والوعيد عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في سورة الأنعام أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى :﴿خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ (الأنعام : ١٠٢) على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى، وأطنبنا هناك في الأسئلة والأجوبة، فلا فائدة ههنا في الإعادة، إلا أن الكعبي ذمكر ههنا كلمات فنذكرها ونجيب عنها، فقال إن الله تعالى مدح نفسه بقوله ﴿اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح أن يحتج المخالف به، وأيضاً فلم يكن في صدر هذه الأمة خلاف في أعمال العباد، بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام، فأراد الله تعالى أن يبين أنها جمع من خلقه، وأيضاً لفظة ﴿كُلُّ﴾ قد لا توجب العموم لقوله تعالى :﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ﴾ (النمل : ٢٣) ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء ﴾ (الأحقاف : ٢٥) وأيضاً لو كانت أعمال العباد من خلق الله لما ضافها إليهم بقوله ﴿كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم﴾ (البقرة : ١٠٩) ولما صح قوله ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ (آل عمران : ٧٨) ولما صح قوله ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ﴾ (ص : ٢٧) فهذا جملة ما ذكره الكعبي في تفسيره، وقال الجبائي :﴿اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ سوى أفعال خلقه التي صح فيها الأمر والنهي واستحقوا بها الثواب والعقاب، ولو كانت أفعالهم خلقاً لله تعالى ما جاز ذلك فيه كما لا يجوز مثله في ألوانهم وصورهم، وقال أبو مسلم : الخلق هو التقدير لا الإيجاد، فإذا أخبر الله عن عباده أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل، فيصح أن يقال إنه تعالى خلقه وإن لم يكن موجداً له.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٧٩
واعلم أن الجواب عن هذه الوجوه قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة الأنعام، فمن أراد الوقوف عليه فليطالع هذا الموضوع من هذا الكتاب، والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ﴾ فالمعنى أن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير منازع ولا مشارك، وهذا أيضاً يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، لأن فعل العبد لو وقع بتخليق العبد لكان ذلك الفعل غير موكول إلى الله تعالى وكيلاً عليه، وذلك ينافي عموم الآية.
ثم قال تعالى :﴿لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ والمعنى أنه سبحانه مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية، لأن حالفظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي بيده مقاليدها، ومنه قولهم : فلان ألقيت مقاليد الملك إليه وهي المفاتيح، قال صاحب "الكشاف" : ولا واحد لها من لفظها، وقيل مقليد ومقاليد، وقيل مقلاد ومقاليد مثل مفتاح ومفاتيح، وقيل إقليد وأقاليد، قال صاحب "الكشاف" : والكلمة أصلها فارسية، إلا أن القوم لما عربوها صارت عربية.


الصفحة التالية
Icon